رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الثالث عشر | مترجم
حين استيقظت كلاريون، كان وسادتها مبللاً من الثلج الذائب.
لولا ذلك، لظنّت أن مغامرتها في الشتاء كانت مجرد حلم.
لكن المعطف المخبأ في زاوية خزانتها كان دليلاً قاطعًا.
كل شيء كان حقيقيًا:
مكتبة منحوتة من الجليد، ركوب الذئب عبر الغابات الثلجية، كتاب يحكي عن مواهب اندثرت...
وصبي أبيض الشعر حملها بين طيات البرد.
"أؤمن أنكِ قادرة على أكثر مما تظنين، ربما لا تزال موهبة الأحلام حيّة بداخلك."
كان الأمل في ذلك كبيرًا.
لكن تلك الليلة ستكشف لها الحقيقة: هل يمكنها بالفعل إغلاق الحاجز وإيقاظ رعاياها من سباتهم؟
كانوا يثقلون عقلها ذلك الصباح.
وبمجرد أن استعدّت، طلبت من أرتميس مرافقتها إلى حقول "ماتريكاريا"، حيث تعمل مواهب العلاج.
كانت من أهدأ زوايا فصل الصيف، حقول مفروشة بأزهار الحُمّى ونابضة بالينابيع الصافية.
مياهها كانت تهدّئ النفوس، لذا كان المعالجون يحتفظون بقوارير منها دائمًا.
شعرت كلاريون بشيء من الراحة لأن المكان لم يُمس بعد.
فليس كل "جوف الجنيات" كان بذلك الحظ.
أمس، اجتاحت أسراب من الكوابيس حقول اليقطين في الخريف ، ونهشت منها الحياة.
لم ترَ ذلك بعينيها، لكن أرتميس نقلت إليها الأحاديث التي تداولها الكشافة.
وبمجرد أن بدأت الشمس تتسلل إلى السماء، وصلت كلاريون وأرتميس إلى العيادة،
وهي مساحة محفورة داخل جذع شجرة قيقب.
هبطا على أحد المقاعد الخشبية التي كانت تُستخدم كمدخل للعيادة، محاطًا بالكثير من الكراسي المتأرجحة.
كانت الأنوار مشتعلة في النوافذ، رغم أن الوقت لا يزال مبكرًا جدًا.
فمواهب العلاج كانوا يتناوبون في العمل طوال اليوم، حرصًا على أن يكونوا دائمًا مستعدين لمساعدة أي جنية محتاجة.
وقفت كلاريون مترددة أمام الباب، تتنفس رائحة "الحُمّى البيضاء" الحمضية المرّة.
كان داخلها مزيج مربك من التوتر والذنب.
فمنذ الهجوم، لم تزُر راون ولا الآخرين، ولم تكن تعرف إن كانت قادرة على مواجهتهم.
قالت أرتميس بنبرة لطيفة:
"هل أنتِ مستعدة؟"
صوتها وحضورها الثابت جعلاها تشعر بالثبات،
رغم أن "مستعدة" كانت كلمة أكبر مما تشعر به فعلًا.
لكنها تستطيع. فأومأت بصمت.
طرقت الباب، وفتحت لها إحدى الجنيات من مواهب العلاج.
كانت ترتدي ثوبًا أبيض ، وشعرها الأسود مربوطًا تحت قبعة ممرضة، وبضع خصلات مموجة هربت من القبعة واستقرت على بشرتها الصفراء الدافئة.
قالت بمرح:
"صباح الخير!"
ثم بدت مندهشة فور أن أدركت من أمامها.
"أوه! جلالتك. لم أتوقعكِ اليوم أيضًا. ما الذي أتى بكِ؟"
أجابت كلاريون:
"أود زيارة وزير الخريف."
ثم سألت، رغم أنها تعرف الإجابة مسبقًا:
"هل طرأ أي تحسن على حالته؟"
انخفضت أجنحة الجنية كما انخفضت ابتسامتها.
"لا، للأسف. آسفة أنني لا أملك أخبارًا أفضل.
نحن نعمل جاهدين على مصلٍ مضاد، لكن..."
قاطعتها كلاريون بلطف:
"أعرف أنكم تبذلون قصارى جهدكم. هل يمكن أن تأخذيني إليه؟"
هزّت الجنية رأسها بالموافقة، وقادتهما عبر ستارة من النباتات العنقودية.
توقفت كلاريون عند باب الغرفة، وكاد الغثيان أن يغمرها.
لم ترَ هذه الغرفة بهذا الازدحام من قبل.
إحدى عشرة سريرًا، مفروشين بالطحلب وبذور الحرمل، وعلى كل منها جسد ساكن جدًا.
هدوء غريب يخيّم على المكان، كأنه برد الشتاء.
قالت المعالجة:
"سأترككما لتزورا المرضى."
سارت كلاريون بصمت بين الأسرة،
ووميضها ينير ملامح الجنيات الغارقة في سبات.
حتى توقفت بجوار سرير راون.
كان يتقلب في أحلامه المضطربة، وحاجباه معقودان،
وشعره الكستنائي متناثر بفوضى على الوسادة.
حتى عظام وجنتيه بدت أكثر حدة.
رؤية راون بهذا الشكل كانت مؤلمة ومحبِطة، تشعرها بعجز مؤلم.
همست:
"أنا آسفة..."
ومع مرور اللحظات، راح دوامة صغيرة تدور فوق راسه ، عبارة عن خيوط باردة ومظلمة، تنبعث منها شرارات صغيرة مشؤومة، تلتف حول عقله ببطء.
**هل كان هذا هو السحر الذي يقيده في حلمه؟**
وحين ركّزت كلاريون انتباهها عليه،
ارتدت إلى الوراء بدهشة.
قشعريرة غمرت جسدها، ونفَسها فرّ منها.
ضلوعها انكمشت بشدة، حتى خافت ألا تقدر على التنفس مرة أخرى.
لم تعرف من قبل شكل خوفها، لكنها تخيّلت أنه يشبه هذا تمامًا.
تراجعت خطوة مبتعدة عن الوزير.
"جلالتكِ!"
كانت أرتميس بجانبه ، امسكت بكوعها فورًا، بينما نظرتها بقيت مشدودة بحذر نحو راون.
"هل أنتِ بخير؟"
استغرق الأمر من كلاريون بعض الوقت لتجد صوتها:
"أظن ذلك."
وبهدوء، خفّفت أرتميس قبضته على ذراعها وسألت:
"ماذا حدث؟"
قالت كلاريون وهي تمسّد معصمها:
"لست متأكدة تمامًا."
ومع بعض المسافة بينها وبين راون، بدأ الخوف يتراجع قليلًا، مما سمح لها بالتفكير بوضوح.
لقد رأت قوة الكابوس المتبقية داخله، مثل عقدة أو سلاسل ثقيلة تربطه بعالم أحلامه المرعبة.
هل يُثبت هذا نظرية الحارس؟ حتى إن كان الارتباط ضعيفًا، فهو لا يزال متصلًا بقوة الأحلام الذي بدأ بالزوال.
وكل ما في وسعها الآن هو أن تأمل أن يكون هذا كافيًا لإصلاح الحاجز المتآكل.
**من أجل الجميع... لا يمكنني الفشل الليلة.**
" جئتِ للزيارة ؟."
تفاجأت كلاريون، وانحنت أرتميس برأسها قائلة: "جلالتك."
ظهرت إلفينا من إحدى الغرف الخلفية، ترافقها إحدى المعالجات، وكانت يداها مشبوكتين وتبدو عليها الجدية.
تأرجحت ستارة النبات خلفها بخفة.
وفي ضوء الصباح المبكر، أدركت كلاريون كم كانت الملكة مرهقة.
قالت كلاريون:
"نعم، أردتُ الاطمئنان عليهم."
اكتفت إلفينا بهزة خفيفة.
في النهاية، كانت لديهما نفس الدوافع.
ولمحت كلاريون أن بينهما رابطًا،
رغم اختلاف أفكارهما، إلا أنهما تتشاركان الألم والمحبة لرعاياهما.
وبعد لحظة صمت، قالت إلفينا:
"لديكِ اجتماع مع وزيرة الصيف غدًا."
زفرت كلاريون عندما تذكّرت جدولها.
"نعم."
"وبعده، ستخضعين لجلسة استشارة تخص فستان التتويج، ثم آخر تجربة قياس للفستان. لم يتبقَ سوى أسبوعين..."
قاطعتها كلاريون بنبرة فيها بعض الضيق:
"أعلم."
حدّقت فيها إلفينا بذهول.
وحين أدركت كلاريون أنها قاطعت ملكة جوف الجنيات ، خفضت نظرها باحترام.
لم تكن تنوي أن تكون فظة،
لكن فكرة الحفلات، والفُساتين، والقوائم الرسمية...
كانت لا تطاق، خاصةً وهي محاطة بجنيات لم تستطع حمايتهن.
"أعني... نعم، أعلم. شكرًا."
استعادت إلفينا رباطة جأشها وأشارت نحو غرفة المرضى.
"من الجيد أنكِ تهتمين بهم،
لكنني أريدك أن تركزي على تتويجك وإتقان قدرتك قبل ذلك.
أنا سأتكفل بالكوابيس."
قالت كلاريون:
"أنا أركّز بالفعل..."
رفعت إلفينا حاجبها:
"وزيرة الربيع أخبرتني أنكِ بدوتِ شاردة آخر مرة رأتك فيها."
"إنه فقط التوتر."
ترددت كلاريون واقتربت من إلفينا حتى باتت تحوم إلى جانبها.
"ولا أستطيع التوقف عن القلق.
حتى إن نجح مخططكِ، فلن يوقظ هؤلاء الجنيات."
اسودّت تعابير وجه إلفينا، لكنها وضعت يدها على كتف كلاريون.
"سنجد طريقة.
وفي الوقت الحالي، سنتأكد من ألّا تسقط المزيد منهن.
خُطتي تتقدم.
الحرفية الملكية تساعدني."
قالت كلاريون، كرد فعل تلقائي:
"بترا ؟ "
ويبدو أن إلفينا لم تتذكر اسمها.
"صحيح."
وعلى المستوى العقلي، كانت كلاريون تعرف أنها لا يجب أن تشعر بالخيبة.
فبترا لا تستطيع مخالفة الملكة بهذه السهولة،
خصوصًا عندما تكون وظيفتها كالحرفية الملكية معرضة للخطر.
لكن رغم ذلك...
كان الأمر مؤلمًا.
قالت كلاريون بصعوبة:
"هذا جيد، فهي موهوبة جدًا."
بدت إلفينا وكأنها هدأت قليلًا.
"إذن، حاولي ألّا تقلقي كثيرًا. سأتولى الأمر."
أجابت : "بالطبع،".
لكن كل ما كانت تفكر به: **لا. أنا من سيفعل ذلك.**
❄️❄️❄️❄️
قبيل الغروب، جمعت كلاريون معطفها وقفازاتها وحذاءها داخل حقيبة صغيرة.
فتحت أبواب شرفتها وخرجت إلى بهدوء.
تغلغل ضوء الشمس الاخير ، سميكًا كالشراب، بين أغصان شجرة غبار الجنيات، ناشرًا ظلالًا متناثرة على الأرض.
تمايلت الأوراق مع النسيم الخفيف، وكأنها تودعها.
"مرة أخرى، جلالتك؟"
كانت آرتميس جالسة في مكانها المعتاد، تقلّب صفحات كتاب.
وبدا أنها اعتادت على روتين كلاريون إلى درجة أنها لم ترفع رأسها لتنظر إليها.
حدّقت كلاريون في غلاف الكتاب؛ بدا عنوانه مشبوهًا... "لغة الزهور في الصداقة."
ضحكت كلاريون:
"ما الذي تقرئينه؟"
"لا شيء."
أغلقت آرتميس الكتاب بسرعة وحدّقت بها بحدة.
ثم استعادت هدوءها، وسعلت قليلًا وقالت:
"رجاءً، لا تتأخري الليلة."
"لن أفعل."
ابتسمت لها بخفة، ثم أضافت:
"بالمناسبة، يسهل مصداقة بيترا."
احمرّت وجنتا آرتميس، ولوّحت لها كلاريون قبل أن تحلّق نحو أراضي الشتاء.
عندما وصلت، كان ميلوري بانتظارها بالفعل... ولم يكن وحده.
كانت بجانبه بومة ثلجية ضخمة، أطول منه بضعفين.
ارتجف دمها خوفًا.
منذ وصولها، كانوا يعلمونها أن الطيور الجارحة من أخطر المخلوقات على الجنيات.
ومع ذلك، ها هو ميلوري يربّت عليها كما لو كانت فأرًا أليفًا!
حقًا، جنّيات الشتاء لا يخشين شيئًا.
سألت : "ما هذا؟" .
أجاب ميلوري : "هذه نوكتوا،" ، وكأن ذلك كان تفسيرًا كافيًا لسؤالها.
وبعد لحظة، أضاف:
"إنها بومة ثلجية."
لقد أخبرها أنه بحب البوم. ولم يكن يمزح.
توهّجت عينا البومة الصفراء في الظلام المتزايد.
كانت تتحرك بطريقة مترددة وحذرة، الطريقة التي لم تثق بها كلاريون في الطيور من قبل.
كان رأسها يدور بطريقة غير طبيعية ، ومخالبها مخيفة.
كانت مربوطة من قدم واحدة، ؛ بينما يمسك ميلوري الطرف الآخر كأنه مقود.
قال بجدية :"أنا لا أمزح أبدًا بشأن البوم،" .
"إذًا، أنت غاضب."
ابتسم ميلوري فقط.
"هل تودين التعرف عليها؟"
ابتلعت كلاريون تنهيدة توترها.
"أوه، نعم. لا شيء أحبه أكثر من هذا."
أنزلت حقيبتها واستخرجت ملابس الشتاء.
وبعد أن أغلقت زر المعطف الأخير، عبرت الحدود،
وتركت البرد الشتوي ينساب فوقها مثل الماء.
ومع اقترابها، لم تستطع منع نفسها من التفكير أن ميلوري بدا أكثر دفئًا تحت أشعة الشمس الغاربة،
وكانت أجنحته تتخللها لمحات من الذهب المصقول والأحمر الباهت.
والآن، حين أجبرت نفسها على التدقيق،
لم تستطع إنكار أن نوكتوا كانت مخلوقًا جميلًا بالفعل.
كان ريشها ناصع البياض، كبياض شعر ميلوري.
يتدلّى من عنقه تميمة بلورية مربوطة بسلك، وخلفه أهداب كأنها لجام.
قالت كلاريون بأكبر قدر ممكن من الحماسة : "سنركبها، أليس كذلك؟" .
"حسنًا..."
أمسك ميلوري اللجام وفكّ قيد قدم نوكتوا.
"سيكون ذلك أسرع من المشي."
سألت كلاريون: "هل أنت متأكد من هذا؟" .
"أنتِ على وشك مواجهة الكوابيس بإرادتك، وتخافين من بومة؟"
قاومت رغبتها في لكم ذراعه.
"أنا لا أخاف منه."
ابتسم لها بتهكم خفيف وكأنه يقول: "حسنًا، كما تشائين."
ثم قال:
"هل ننطلق؟"
تمتمت : "إذا اضطررنا..." .
وبتنهدٍ مستسلم، صعدت كلاريون على ظهر البومة.
أدار نوكتوا رأسه 180 درجة لينظر إليها بعينيه الصفراء المتفحّصة.
وللحظة، فكّرت في القفز والعودة إلى الأرض،
فإن انطلقت هذه البومة وهي لا تزال على ظهرها، ستسقط حتمًا، لا سيما وجناحاها مقيدان.
لم تكن أي جنية خائفة من المرتفعات من قبل... حتى الآن.
لحسن الحظ، انضم إليها ميلوري سريعًا.
"انتظري."
لفّت كلاريون ذراعيها حول خصر ميلوري.
دفعها للأمام، فانطلقت نوكتوا بلا تردد.
صفعت الرياح وجهها، وانقلبت معدتها.
حبست صرختها وهي ترتفع في السماء المظلمة.
دفنت جبينها بين كتفيه، فقط لتتجنب ملاحظة كم ابتعدت عن الأرض.
"أنا أكره هذا!"
ضحك ميلوري بصوت دافئ جعل الأمر يبدو شبه محتمل.
وعندما تجرأت أخيرًا على النظر، رأت منظرًا ساحرًا.
لقد طارا عالياً حتى شعرت كلاريون بأنها تستطيع أن تمدّ يدها وتقطف القمر الباهت من السماء.
اخترقت أجنحة نوكتوا السحب المنخفضة، تاركة وراءها خطوطًا بيضاء.
ثم هبطا فجأة، وكان شعرها يتطاير بجنون في الرياح المتزايدة.
وجّه ميلوري نوكتوا نحو فرع شجرة، وانزلق من ظهره، ثم مد يده لمساعدة كلاريون لتنزل إلى تلال الثلج.
دارت كلاريون حول نفسها ببطء، تتأمل تفاصيل المكان، ولكن بشعور متزايد من الخوف.
في هذا الجزء من غابة الشتاء، تنمو الأشجار بشكل غريب.
سيقانها الشاحبة ترتفع بشكل مستقيم ومسنّن، ولحاءها ملتفّ ومعقود وتظهر عليه أشكال مظلمة تشبه الأعين.
كانت الأغصان تعلو وتخدش السماء، وهناك، على بُعد خطوات، رأت شقًّا بين الأشجار.
ارتجفت فجأة، وسمعت في أعماق ذهنها صوتًا يقول: اركضي.
نفس الصوت الذي سمعته عندما واجهت الكابوس في الخريف، ذلك المخلوق الضخم بعينيه البنفسجيتين البشعتين.
هناك شيء خاطئ في هذا المكان.
سألت : "أين نحن؟"
قال ميلوري بنبرة ثقيلة:
"مكان لا يجرؤ الكثيرون على الاقتراب منه. اتبعيني."
ثم خرجا من ظل الاشجار إلى ساحة صغيرة عند سفح الجبل، و استغرق الأمر لحظة حتى تستوعب كلاريون ما تراه بالضبط.
بحيرة شاسعة تمددت أمامهما، متجمدة، تحدّق بالقمر وكأنها عين سوداء.
كل خلية من جسدها صرخت **اركضي.**
قال ميلوري:
"هذه هي سجن الكوابيس."
كلاريون تبعت ميلوري إلى سطح البحيرة بتردد،
كانت هناك ومضات خفيفة من القدرة الحامية تتلألأ داخل الجليد، لكنها استطاعت أن ترى حركة المياه العميقة المتخبطة تحته ، فراغها المظلم أقلقها أكثر مما أرادت الاعتراف به.
وفجأة، لمحت شيئًا—عين بنفسجية تحدق بها بشؤم—فجعلتها تتجمد من الرعب.
لم تكن هذه مياه...
بل شيء حيّ تحت الجليد.
قالت : "الكوابيس تحت البحيرة."
أجاب ميلوري : "نعم، هذا صحيح."**
انقبض قلب كلاريون بسبب نبرة المرارة في صوته.
لم تستطع تخيّل الحمل الذي يحمله،
ليس فقط قلقه على شعبه، بل مراقبة مخلوقات لا يملك أي قوة تجاهها.
كيف يشعر المرء وهو مسؤول عن شيء لا يستطيع السيطرة عليه؟
أن يعيش أيامه في الإنصات... والمراقبة... والانتظار.
همست : "ميلوري..." ، ثم سكتت.
ماذا يمكنها أن تقول لتعزيه فعلًا؟
نظر إليها، وكأنه على وشك الرد...
لكنها شعرت فجأة بأن كل الكوابيس تحت الجليد قد التفتت نحوها.
نبض وجودهم اخترق جلدها، ورغبة عارمة بالهرب تملكتها مجددًا.
قشعريرة سرت في عمودها الفقري، لكنها قاومت ذلك الشعور،
وتبعت ميلوري نحو منتصف البحيرة.
ومع كل خطوة، كانت الكوابيس تتخبّط، وكأنها تبتعد عن أثر خطواتها.
"ها قد وصلنا."
في الحال، رأت كلاريون المشكلة:
الجليد متشقق.
في وضح النهار، بالكاد يُرى،
لكن في الظلام، كان متوهجًا بنور شرير، وكأن ما تحته على وشك الانفجار.
انحنت بجوار الكسر وفحصته عن قرب.
رأت خيوطًا ذهبية من حاجز الأحلام .
لكن هنا، كان هشًا وممزقًا كبطانية قديمة.
وبعض الكوابيس تسللت عبره،
وتجمعت تحت الجليد كحبر مسكوب،
تتصارع بأسنانها الجائعة.
انتشر في داخلها إدراك مروّع:
" سيُمزقونه."
قال ميلوري : "بالضبط،".
تابع : "حاولت تغطية الشقوق بالجليد، لكن في كل مرة أعود، يبدو وكأنني لم أفعل شيئًا."
لم يكن الأمر مفاجئًا له.
رغم أن المخلوقات الأكبر لا تزال محاصرة تحت شبكة الأحلام،
إلا أن هذه الكوابيس الصغيرة ستثابر حتى تُحدث فجوة أكبر للهروب،
وحين يتآكل الحاجز بما يكفي،
سيلحق بها الجميع.
إلا إذا استطاعت كلاريون أن تُقويه...
أغمضت عينيها، وركّزت على الألياف القديمة المهترئة لشبكة الأحلام.
رأتها، مشرقة كضوء النجوم،
تتلألأ داخل الظلام خلف جفنيها.
تمامًا كما استطاعت أن تشعر بقوة الكابوس داخل ذهن راون.
تخيلت نفسها تقبض على تلك الخيوط الذهبية،
وكان شعورًا دافئًا، كأنها تلتف بها مثل سترة صوفية،
تغمر نفسها بدفئها.
لم يكن الأمر مختلفًا كثيرًا عن شعورها بغبارها الخاص.
لكنها شعرت أيضًا بضعف ذلك الحاجز.
فكرت : **إن استطاعت أن انسج غبار النجوم داخل تلك الثقوب ...**
بدأت كلاريون تستدعي قدرتها.
توهّج ضوء ذهبي من بشرتها، وصوت صفير خافت تصاعد من تحت طبقة الجليد السميكة.
بدأ عرق بارد يتجمّع خلف رقبتها وهي تركّز طاقتها في يديها.
كان أول ما فكرت فيه... ليس السيطرة، بل الحماية.
دخل غبارها في نسيج شبكة الأحلام.
وعندما بدأت الكوابيس بالعواء غضبًا، أضاء غبارها العالم كله بلون الذهب.
تأملها ميلوري بدهشة صامتة، وفمه انفتح قليلاً بلا كلمة.
اضطرت كلاريون إلى أن تُشيح بنظرها عنه لتحافظ على تركيزها.
وحين أنهت ترقيع الجزء الممزق من الحاجز، استطاع ميلوري تجميد الجزء المتكسر من الجليد.
ثم حدث شيء تحت البحيرة...
اهتز الجليد تحت قدميها، وارتجّ السجن في أعماقه.
خف غبارها ، وانطفأ كشمعة أُطفئت فجأة، وشعرت أن كل ما نسجته بدأ يتفكك وكأنه خيوط مرتخية.
موجة من الذعر اجتاحتها.
صاح ميلوري :"هل يمكنكِ الصمود؟".
– "أعتقد أنني..."
وقبل أن تكمل، دوّى صوت تحطم هائل عبر الساحة، إذ انطلقت إحدى الكوابيس نحو الحاجز.
ترنّحت كلاريون، ثم فقدت توازنها على الجليد الزلق.
انزلقت قدماها وسقطت على ظهرها بقوة.
انقطع ارتباطها بغبارها، وتوقفت أنفاسها للحظة، وشعرت بألم حاد يمتد عبر جناحيها.
لقد تألمت.
ورغم ذلك، كان كل ما يدور في ذهنها هو الإحباط...
كانت قريبة جدًا!
كل ما بقي من محاولتها طبقة رقيقة من غبار الجنيات على الجليد،
لكن بدا يخبو وهجها تدريجيًا مثل جمرة تموت.
الظلال تحتها بدأت تتحرك بتهديد، تنبعث منها كراهية محسوسة.
نادى ميلوري : "كلاريون!" .
تابع : "هل أنتِ بخير؟"
وقبل أن تجيب، انطلق صوت تحطّم جديد في الجليد.
خلف ميلوري مباشرة، ارتفعت كتلة داكنة كالدخان من أعماق البحيرة.
تدوّرت ثم امتدّت كقطرة حبر في الماء.
تمكّنت كلاريون من تمييز شكل أجنحة،
انفتحت أمام ضوء القمر الخافت، حتى حجبت ما تبقى منه.
همست بخافتة صوت : "ميلوري...".
تلاشت الألوان من وجهها.
وببطء، التفتت لتنظر إليه.
تشكلت الكابوس من دخانه الملفوف والمضطرب حتى اتخذ شكلًا مألوفًا:
غراب.
واحدة تلو الأخرى، فتحت عشر عيون بنفسجية على جسده،
كل بؤبؤ يرتعش، وكأنه يحاول التركيز.
اختبر مخالبه بالتمدد، ثم رفرف بجناحيه مرّتين،
مرسلًا ريحًا نتنة باتجاههما.
ارتفع أعلى في السماء، وكل عيونه مثبتة على كلاريون.
أطلق الغراب الكابوسي صرخة حادة،
ثم انقضّ نحوها.
لم تفكر.
تدحرجت.
شعرت بألم حارق يخترق جسدها،
لكن مخالبه غرقت فقط في المكان الذي كانت ترقد فيه قبل لحظات.
تعافى الوحش بسرعة، وانقض عليها مجددًا.
نبضات قلبها كانت مدوية في أذنيها،
حتى إنها لم تكن تسمع صوت أنفاسها المتقطعة.
مجرد وجوده جعل جلدها يقشعر،
وعقلها يضج بعبارة واحدة: **اركضي، اركضي، اركضي.**
هاجمها مجددًا.
الخوف الذي حاولت قمعه انفجر على السطح.
لم تستطع إيقافه.
لم تستطع الصمود.
لم تستطع...
لكن، انفجار من الصقيع دفعه عن مساره.
سقط الغراب على الجليد ككومة،
ثم اختفى كدخان ليعيد تشكّل نفسه مجددًا...
بشكل أكثر بشاعة.
ظهرت له أجنحة جديدة، بمفاصل عديدة، تنقط ظلالًا لزجة وهو يحوم في السماء.
صرخ مرة أخرى، صرخة اخترقت جسد كلاريون حتى عظامها.
ثم انقضّ، ومخالبه موجهة نحو ميلوري.
"نوكتيوا!" صرخ بصوت عالٍ. "الآن!"
أطلق نوكتيوا صرخة غاضبة ، ثم اندفع نحو الكابوس مثل عاصفة ثلجية.
جناحاه يخفقان ومخالبه تمزق. طاروا في السماء مثل شجار من الأبيض والأسود. راقبت كلاريون المشهد وقلبها يكاد يتوقف، حتى تحرر نوكتيوا أخيرًا، يتساقط الدخان من منقاره كما لو كان دمًا.
قررت كلاريون أنها ربما تحتاج إلى إعادة النظر في رأيها عن البوم.
انتهز الكابوس فرصته. بخفقة من جناحيه المتفتتين، ارتفع حتى أصبح صورة ظلية أمام وجه القمر الهلالي. ثم، بصيحة أخيرة، اندفع واختفى داخل الغابة.
سقطت كلاريون على ركبتيها، ثم ضربت الجليد بقبضتها وهي تصرخ غاضبة. كيف كانت بهذا الغباء؟ كان بين يديها، ثم أفلتته. ومع زوال الأدرينالين، بدأت ترتجف من التوتر. أنفاسها الثقيلة أصبحت ضبابية في الهواء.
"كلاريون."
حافظ ميلوري على نبرة صوته متزنة، لكن كلاريون أدركت الذعر المختنق بداخله.
"أنا آسفة... ما كان يجب أن أفعل ذلك..."
"كلاريون"، كرر بنبرة أكثر حزمًا. "أنتِ تنزفين."
نظرت إلى أسفل. بقعة حمراء بدأت في الظهور على ذراعها. الآن بعدما لاحظتها، اجتاحها الألم والبرد. ضغطت على الجرح لإيقاف النزيف، لكنها ارتجفت وهي تشعر ببشرتها المبللة تزداد برودة. "واو."
تمزق كمّ معطفها.
لكن لا داعي للذعر. تنفست كلاريون بارتياح. طالما ظلت أجنحتها معزولة، فهي ليست في خطر.
اقترب ميلوري من المسافة القصيرة التي تفصل بينهما. "هل أنتِ بخير؟"
قالت بسرعة : "مجرد خدش"، اضافت . "خدش عميق، نعم، لكنه ليس مميتًا." "أنا آسفة. لم أتمكن من إنجازه."
"لا، أنا من يجب أن يعتذر." بدت على وجه ميلوري ملامح عذاب. "أنا وضعتك في الخطر."
كان ميلوري يحمل الكثير من الذنب أصلاً. رفضت أن تسمح له بإضافتها إلى قائمة ألمه.
أشارت إليه بإصبعها. "أنت لم تفعل شيئًا. أنا من وضعت نفسي في هذا الموقف، وكوني الملكة القادمة، لن أسمح لك بالقول غير ذلك."
بدت عليه الرغبة في النقاش، لكنه عدل عن ذلك عندما رآها مصممة. "سأصلح ما ألحقوه بالجليد. بعدها، يجب أن نأخذك إلى المعالج."
أمسكت كلاريون بذراعها بقوة، تتألم من شعور الدم المتسرب بين أصابعها. "نعم، أظن أن هذه فكرة جيدة."
تردد ميلوري، وكأنه يخشى أن تنهار إن نظر بعيدًا عنها للحظة. عبس، ثم استدار.
راقبته كلاريون وهو يرفع يديه ويتنفس بعمق. انطلقت دوامات من بلورات الثلج من يديه كضباب، تتلألأ تحت ضوء القمر. ظهرت زخارف جليدية على الأرض على شكل أنماط هندسية، ثم تجمدت على الجليد المكسور، كأنها فخار مكسور تم ترميمه .
عندما انتهى، صفّر لنوكتيوا. جاء إليه البوم فورًا، يطلق صوتًا منخفضًا اعترافًا بالدعوة. وما إن حطت، وضع ميلوري رأسه على منقارها وهمس، "شكرًا لكِ." نفش نوكتيوا ريشه برضا.
ورؤية الرابط بينهما جعلت كلاريون تتوقف لبرهة...
الرابطة بينهما، وكيف اندفع نوكتيوا لحمايته بسرعة، أثّرت في كلاريون في نقطة حسّاسة.
قالت كلاريون بصوت خافت : "إنه أمر رائع،" .
أضاء وجه ميلوري فرحًا. حتى نوكتيوا بدا وكأنه يزهو بنفسه.
"حقًا كذلك."
اختفى ابتسامة ميلوري بعد لحظة. "هل تستطيعين الصعود؟ سأجعله يأخذنا إلى أصحاب مواهب الشفاء."
"أعتقد ذلك."
تسلقت كلاريون ظهر نوكتيوا بأكبر قدر من الرشاقة. وعندما ثبتت نفسها، عبست وهي تنظر إلى ذراعها. "قد يصعب عليه التمسك جيدًا، فقط."
"سأتأكد من أنكِ لن تسقطي،" أجاب فورًا دون تردد وهو يصعد خلفها.
لم يسبق لكلاريون أن قابلت أحدًا يمنح العهود الجادة بهذه السهولة.
لم تستطع التفكير كثيرًا، لأنه لف ذراعه حول خصرها. تسللت حمرة إلى عنقها من شدة قربه. لا، يبدو أنها فعلاً لن تسقط.
رائحة الصنوبر والماء البارد انبعثت برقة من بشرته. وجوده خفّف من وخز غضب الكوابيس الذي كان يخترقها. بالكاد صدّقت أنها كانت آمنة هكذا.
وبدون تفكير، مالت كلاريون برأسها نحو عنق ميلوري، تحاول تجاهل اضطراب أنفاسها.
❄❄❄
تعليقات
إرسال تعليق