رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الثاني عشر | مترجم

 مدّت كلاريون يدها لتستدعي غبارها، وهي تستعد للشعور بالعجز حين لا يستجيب لها.  

لكن عندما خرج الوحش من بين الأكوام، لم يكن يحمل طابع الكوابيس المخيف.  

لم يكن مكوّنًا من ظلال سوداء، بل من لحم وعظم وجلدة.  

وإن لم يكن ذلك مطمئنًا تمامًا، كما فكّرت كلاريون، وهو يحدّق فيهما بشراسة، كاشفًا عن أنيابه.  

كان طوله يقارب ثلاثة أضعاف طولها، مغطّى بفرو رمادي كثيف، وعيناه الصفراء تخترقان قلبها.


تراجعت كلاريون غريزيًا. "ما هذا؟"


قال ميلوري بهدوء: "هذا فقط فنريس."


فقط؟ كيف يمكنه أن يكون بهذه الهدوء؟ 


قالت : "لقد أعطيته اسمًا؟"


"ليس أنا." رفع ميلوري يديه وكأنه يناديه. "إنه ذئب الحارس."


الذئب، فنريس، زحف نحو ميلوري على بطنه، وأذناه منخفضتان.  

وعندما وصل إليهما، وضع ذقنه الضخم على قدمي ميلوري، وحرّك ذيله بلطف فوق الجليد.  

من الواضح أنهما صديقان.


ضحكت كلاريون بخفة، محاولة تبديد التوتر الذي بدأ يتراكم داخلها.  

لقد جرّت بيترا إلى مغامرات خطيرة من قبل، لكنها كانت تعرف حدودها، أو على الأقل تملك غريزة البقاء.  

"وأنت تملك واحدًا من هذه الوحوش؟"


"لا." ربت ميلوري على أنف فنريس وتابع : "لطالما أحببت البوم."


 "البوم؟" لم تستطع كلاريون إخفاء نبرة الرعب في صوتها.  

فهي مفترسات خطيرة، على الأقل في المواسم الدافئة.


قال ميلوري بعد لحظة: "الحارس لديه ضعف تجاه الكائنات التي يُساء فهمها."  

وبما أن كليهما لم يعد ينتبه له، أطلق فنريس تنهيدة بدت وكأنها متذمّرة.  

وكانت قوية لدرجة أنها دفعت شعر كلاريون عن وجهها.


"فنريس..."

"هو آمن هنا، لا تقلقي. لا يزال صغيرًا. لكن حتى عندما يكبرون، الذئاب بطبعها حذرة، ومن السهل كسب صداقتها إذا كان لديك طعام."


قالت كلاريون وهي تحك أذنه بخجل :"ليس لدي شيء لك." .  

تحرّك فنريس قليلًا، وكأن ذبابة حطّت عليه.


"فنريس؟" نادى صوت لطيف من بين الرفوف. "ما كل هذه الضجة؟ واو!"


ظهر جني شتوي  وهو يرفرف . كان قصير القامة، بوجه لطيف وشعر أبيض يشبه لهيبًا ناعمًا.  

كان يرتدي زيًا يبدو رسميًا، لكن ما إن وقعت عيناها عليهما، حتى أضاء وجهه بحماس صادق وعفوي.  

"ميلوري!"


"الحافظ." تغيرت ملامح ميلوري تمامًا. ابتسامته جعلته يبدو أخف وأكثر إشراقًا.  

"أحضرت لك شخصًا."


هل هذا هو حافظ المكتبة؟


كانت كلاريون تتوقع أن يكون حافظ أساطير الجنيات أكثر تحفظًا.  

لكنه بدا مفعمًا بالحيوية.  

نظر إليها وهو يعدّل نظارته أثناء اقترابه.  

"جنية دافئة، هاه؟ لم أرَ واحدة تعبر إلى الشتاء منذ وقت طويل."


سألت كلاريون : "هل رأيت جنيات دافئة من قبل؟" .


"أوه، لا! أتمنى ذلك! لكنني قرأت عنهن في القصص."  

اقترب فنريس من الحارس وهو يهز ذيله ويتأوه بلطف.  

ربّت الحارس على رأسه دون أن ينتبه كثيرًا.  

"يُقال إن الجنيات الدافئات كنّ يأتين إلى هنا كثيرًا في الماضي. يتزلجن على الجليد، ويصنعن جنيات ثلجية..."


كلاريون : "يبدو ذلك رائعًا." 

لم تكن كلاريون تعرف شيئًا عن التزلج أو جنيات الثلج، لكن طريقته في الحديث جعلتها تشعر بالدهشة والفضول.  

"أودّ أن أقرأ تلك القصص."


أضاء وجه الحارس. "حسنًا، أنا..."


قاطع ميلوري : "ربما لاحقًا،" ، وكأنه شعر أن الحديث بدأ يخرج عن مساره.  

"هي ليست مجرد جنية دافئة. كلاريون هي ملكة جوف الجنيات."


صحّحت كلاريون، وهي ترمقه بنظرة حادة : "ملكة تحت التدريب،" .  

كان يبدو سعيدًا جدًا بنفسه.


حدّق الحارس بها بدهشة. "إذًا..."


ابتسم له ميلوري وكأنه يمازحه. "أخيرًا، هناك من يستطيع قراءة كتابنا."


كتابنا؟ من الواضح أنه مشروع يعملان عليه منذ زمن.


وكانت ملامح الحارس مليئة بالفرح. "هل تستطيعين؟"


قالت كلاريون : "آمل ذلك،".

 فكرة أن تخيّب آمالهم كانت مؤلمة.  

اضافت : "لكنني لست متأكدة بعد."


"رائع!"

 أمسك الحارس بذراعها وسحبها إلى داخل المكتبة.


"حارس..." تمتم ميلوري بنبرة المستسلم، وكأنه يعرف أنه لا جدوى من الاعتراض.


لحق به، وفنريس يسير خلفه مباشرة.  

كانت رفوف الكتب المتشابكة تتحرك وكأنها تفسح لهم الطريق.  

كانت كلاريون تراقبها بذهول، والعناوين المزخرفة تلمع تحت ضوء أزرق ناعم ينبعث من مشاعل جليدية.


وأخيرًا، وصلوا إلى وجهتهم: مساحة مربعة فارغة، محاطة بالرفوف من كل الجهات.  

وكان هناك طاولة كبيرة، مغطاة بأكوام من الكتب والريشات.


قال الحارس : "انتظري لحظة،" .


الحارس أطلق يدها وسحب زوجًا من القفازات من جيبه. وبعد أن ارتداها، انطلق في الهواء عاليًا، حتى قارب سقف القاعة، يبحث بين الرفوف المتشابكة. ثم استخرج منها مجلدًا ضخمًا مغطى بالجلد، وكاد أن يتعثر تحت وزنه.  

حبست كلاريون أنفاسها حتى عاد به إلى الأرض بسلام، ثم وضعه على الطاولة بحذر شديد.


لم يكن غريبًا أن ميلوري قال إنه لا يستطيع حمله إلى الحدود.  

كان بالفعل كتابًا عتيقًا، أوراقه رقيقة ومصفرّة، وغلافه متآكل ومتقشر.  

وعلى الرغم من أن كلاريون استطاعت تمييز شكلٍ ما مرسومًا عليه، إلا أن الألوان كانت قد تلاشت منذ زمن.  

لم يبقَ إلا نقوش غريبة محفورة في الجلد، تتوهج بخفة كأن فيها غباراً خافتًا نائمًا.


سألت الحارس : "ما هذا؟" .


"لا أعرف،" قال وهو يبتسم أكثر مما توقعت كلاريون في موقف كهذا.  

"لقد بقي في مجموعتنا منذ وقت طويل جدًا. مكتوب بلغة منسية، لكنه مليء برسومات للكوابيس."


ارتعشت كلاريون. "وماذا تريد مني أن أفعل؟"


أجاب الحارس : "الكتاب مغلق برموز سحرية تستجيب لموهبة الحُكم،" .  

"أظنه أشبه بشيفرة. إذا استطعتِ فكها، ربما يمكنكِ فهم اللغة المكتوب بها."


شعرت بشيء يضيق في حلقها.  

كلاريون : "لم أتعلم قط كيف أفتح شيئًا باستخدام غبار الحُكم."


قال لها بتشجيع  :"جرّبي،" .  

"المفترض أن تكون فطرية."


— يا ليت. حسنًا...


مدّت يدها لتتناول الكتاب، لكن الحارس شهق فجأة.  

"غيّري قفازاتكِ أولًا، إن لم تمانعي. إنه هش جدًا."


تمتم ميلوري بكلمة بدت كـ "مهوسي  الكتب".


خلعت كلاريون قفازيها المبللين، وارتدت القفازات التي ناولها لها الحارس.  

كان ملمس الكتاب حساسًا، وراح عموده الفقري يتأوّه حين فتحته.  

وسرعان ما خرجت منها سحابة غبار، فسعلت بخفة.


تصفّحت الصفحات برفق، تمرّ على الحروف المزخرفة في بدايات السطور، ورسومات غريبة لوحوش في الهامش.  

كانت الرسومات مدهشة بحق، تحيط بنص مكتوب بلغة لم ترَها من قبل.  

أشكال سوداء غامضة، بعيون بنفسجية قاسية، تنظر إليها.  

وفي بعض الصفحات، خيوط ذهبية من الغبار  تخترق الظلام.


أغلقت الكتاب مجددًا، تحدّق في الرموز الذهبية المتوهجة على غلافه.  

لكن لم يحدث شيء.  

لم تتغيّر أو ترتّب نفسها لتظهر لها معنى.  

خيّبت أملهم.  

كيف اعتقدت يومًا أنها قادرة؟  

كان عليها أن تخبر ميلوري منذ البداية أنها لا تستطيع استخدام موهبة الحُكم بشكلٍ كامل.  

شعرت بالعار يلتف داخلها.  

"أنا آسفة... لا أظنني أستطيع مساعدتكما."


تغيّرت ملامحهما بخيبة واضحة.


"ربما كانت محاولة بعيدة الاحتمال،" قال ميلوري وهو يفكر بعمق.  

"لكن..."


سأل الحارس : "هل لديك فكرة؟" .


أجاب ميلوري. : "الرموز على أبواب قاعة الشتاء تستجيب لمستي،"   

"ربما يتجاوب الكتاب مع لمسة كلاريون."


هزّ الحارس كتفيه. "لا بأس من المحاولة."


فرصة أخيرة إذًا.  

خلعت كلاريون قفازاتها ووضعتها جانبًا.  

ثم أخذت نفسًا عميقًا.  

قد يكون هذا كل شيء...  

فإن لم ينجح الآن، فكيف يمكنها أن تأمل انها قد  تستطيع قط السيطرة على غبارها ؟ لا، لكن هناك محاولة أخيرة.  

بأصابع مرتجفة، وضعت كلاريون راحة يدها على سطح الكتاب.


فانبثق منه ضوء ذهبي،

فصاح الحارس، مندهشًا ومبتهجًا في آنٍ واحد. حتى وجه ميلوري غمره ذلك الضوء الدافئ، وعيناه تلألأتا بالانتصار.  

سحبت كلاريون يدها، لكنها كانت مذهولة جدًا، وكأن هذا السحر قد ترك أثرًا بداخلها.  

شعرت بدوار خفيف وهي تراقب الهواء من حولها يتلألأ ببقايا السحر.


"ما الذي يحدث؟"  

– "لا أعلم!"  

لكن الحارس بدا مسرورًا بذلك الجهل، وكأنه أمر ممتع بالنسبة له.  

"جربي القراءة الآن."


عندما فتحت كلاريون الكتاب مرة أخرى، بدأ كل حرف فيه يتوهج بلون الذهب، بفعل غبارها النجمي.  

كان الغبار  يتصاعد من الحبر، يلمع في العتمة كأنه ضوء النجوم.  

ومن خلال هذا الوميض المتراقص، بدأت الكلمات تتشكل داخل ذهنها بهدوء.


قالت بصوت خافت – أو لعلها لم تقل شيئًا – "منذ زمن بعيد، حين كانت شجرة غبار الجنيات مجرد نبتة صغيرة، كانت أحلام البشر، الطيبة والسيئة، تمر في مملكة الجنيات."


لكن كلاريون بالكاد استطاعت أن تحدد ما إذا كان الصوت الذي تسمعه يخرج من فمها فعلًا؛ فقد بدت الكلمات وكأنها تُتلى من مكان آخر، والقصة تتجلى في عقلها بوضوح وكأنها انعكاس فوق سطح ماء ساكن.


اتضح أنها كانت **أسطورة**، وجاءت على النحو التالي:


في كل ليلة، كانت الأحلام تُبحر في السماء فوق بحر الأبد،  وتتشابك فيما بينها فتضيء الليل مثل أضواء الشمال.  

كان هناك جنيات يتمتعن بموهبة الأحلام، يجمعن هذه الأحلام كما يُجمع الصوف، ويعدن بها إلى منازلهن.  

وطوال الليل، كن يغزلن خيوطًا من الأحلام على النول.  

وفي الصباح، يجمعن تلك الخيوط ويشبكنها بين أغصان شجرة غبار الجنيات الصغيرة، لتنمو وتكبر بسلام.


لكن غزل الأحلام لم يكن سهلًا، إذ كان لا بد من **تمزيق الكوابيس**، لما تحمله من قوة مظلمة.  

كانت تتناثر على أرض غرفة العمل كقطع قماش سوداء.  

وفي وضح النهار، كانت تموت، 

لكن في إحدى الليالي، استطاعت مجموعة عنيدة أن تفلت من الملاحظة.


بفضل تلك اللحظة من الحرية، تسللت عبر مملكة الجنيات.  

كان بإمكانها تغيير شكلها كالدخان، لكن يبدو أنها كانت تتذكر هيئة المخاوف التي ولدت منها.  

وحوش، حشرات، كلاب متوحشة—كل ما قد يتخيله بشري من رعب.

 هاجمت في تلك الليلة.  وانقضّت بأنيابها ومخالبها، لكن الأسوأ كان سحرها؛  

فمن تصيبه يصبح حبيس نوم لا يُكسر،  

يعاني داخله من أكثر مخاوفه رعبًا.

وقبل الفجر، حين بدأت الكوابيس تتلاشى كضباب،  

وجدت مأواها في الأماكن الأكثر ظلمة، تنتظر الليل من جديد.


كانت ملكة مملكة الجنيات قلقة على شعبها،  

وعلى شجرة الغبار الصغيرة التي لم تبدأ بعد في إنبات أوراقها.  

ولأن جنيات الأحلام لم يكن بمقدورهن تدمير الكوابيس،  

نصحها كبار القوم ببناء **سجن **،  يُغلق بحاجز من غبار الأحلام.


لكن السؤال الوحيد المتبقي كان: أين نضعه؟


ناقشت الملكة والوزراء الأمر لساعات،  

حتى تقدم صديقها العزيز، **سيد الشتاء**، بعرض لإيوائهم في أعماق مملكته،  لأن الشتاء. ابعد مكان عن الشجرة الضعيفة، وتعهّد الشتوي بأن يراقبه بنفسه، كي لا يفلت أي كابوس من جديد.


وبتلك الخطوة الواحدة، نال لقبًا جديدًا: **حارس غابة الشتاء**.


وفي ليلة أخرى، نصبت جنيات الأحلام فخًا للكوابيس الهاربة، ونجحن في الإمساك بها بخيوط من غبار الأحلام.  

ثم نقلنها إلى غابة الشتاء، حيث قامت مواهب الثلج بنحت فتحة عميقة في بحيرة متجمدة.  

غمرن الكوابيس في المياه السوداء، ثم بسطن فوقها حاجزًا نسجنه من خيوط الأحلام.  

وعندما أغلقت مواهب الثلج سطح الجليد، وحُبست قوى الكوابيس المظلمة، استيقظت الجنيات النائمات.  

ومنذ ذلك اليوم، صار مصير كل الكوابيس هو السجن المائي في غابة الشتاء.


وهناك، راحت الوحوش تتصارع فيما بينها كما تفعل الحيوانات الجائعة، حتى لاحظت جنيات الأحلام في زيارة لاحقة أن السجن أصبح... صامتًا بشكل مخيف.  

ومع مرور القرون، تغذّت أقدم كابوس على مرارة الحبس واليأس، ونمت قوتها حتى استطاعت جمع شتات باقي الوحوش.  

كملكة النحل في قلب الخلية، أصبحت توجههم بشيء واحد فقط: **رغبة الهروب والتدمير**.  

لقد أرعبت جنيات الأحلام؛ ما ظنّوا أنهم احتووه... تحوّل إلى شيء لا يمكن السيطرة عليه.


وحين كبرت شجرة غبار الجنيات، لم تعد الأحلام تضيء السماء.  

ومع الوقت، بدأ عدد جنيات الأحلام يتناقص،  

حتى بقيت واحدة... ثم **لا أحد**.


همست كلاريون:  

"هذه هي الطبيعة...  كل شيء يظهر ويزول."


وهكذا، انتهى الكتاب.  

هدأ الغبار الذي كان يتدفق عبرها، وتفككت سحابة الغبار السحري بلطف،  

لتتساقط على الطاولة، ويختفي وهجها الدافئ فوق الجليد،  

ويعود الضوء الأزرق البارد ليملأ الغرفة.


لم يتحدث أحدهم في البداية.


كانت كلاريون بالكاد تستوعب الأمر:  

موهبة جنيّة كاملة ضاعت عبر الزمن، كانت قادرة على إيقاظ النائمات واحتواء الكوابيس.  

فما العمل الآن؟


ميلوري بدا أنه يفكر بنفس الطريقة.  

عبس وهو ينظر إلى الحارس.


"هل سمعتِ من قبل عن جنيات موهبة الأحلام؟"


–قال الحارس بحماس يكاد يجعله ترتجف : "لا!" .  

وعلى الأقل، بدا أن هناك من شجّعته هذه المعلومات، كما فكرت كلاريون.


"هذا اكتشاف جديد تمامًا."


قال ميلوري بصوت يعلوه حزن واضح:  

"الدرع الذي صنعوه بدأ يتفكك، ولا أحد منهم بقي ليصلحه.  لا يوجد ما يمكننا فعله."


سحبت كلاريون يدها من فوق الكتاب، وبدأت تعبث بشفتها بأسنانها.  

قد لا تكون جنيات الأحلام موجودات اليوم،  

لكن إن كانت قد تعلّمت شيئًا من بترا، فهو أن **لا مشكلة بلا حل**...  

فقط لم يجدوه بعد.


قالت بثقة خفيفة:  

"لا بد من وجود شيء يمكن فعله.  

حين هاجم الكابوس غابة الخريف، استطعت دفعه بعيدًا.  

كان الأمر وكأن غباري أبعده...  

لا أعرف السبب تمامًا، ولكن—"


سأل الحارس:  

"ملكات الجنيات يولدن من النجوم، أليس كذلك؟"  

أومأت كلاريون، فأكمل:  

"الشمس تحرق الكوابيس،  

فمن الطبيعي أن يكون غبارك النجمي قادرًا على طردها.  

الشمس... هي نجمة أيضًا."


ظهر بريق أمل في عيني ميلوري.  

"إذًا، يمكنك تدميرهم."


رفعت كلاريون يديها باستسلام:  

"لا، لا أستطيع."


ميلوري : "لكنّكِ قلتِ  ..."

اعترفت بصوت منخفض، وكأن الكلمات أفلتت منها دون أن تدرك:  

"لا أستطيع التحكم بغباري. حاولت طيلة حياتي، لكنه عصيٌ عليّ. لم يكن الأمر سهلًا قط، وأخشى أنه لن يكون كذلك أبدًا. آسف أنني خيّبت ظنك."


أغمضت عينيها بقوة لنحبس دموعها. كم هو محرج أن تنكسر هكذا أمامهم.  

بدا ميلوري وكأنه سيعترض، لكن الحارس وضع يده على كتفه لتهدئته.

قال الحارس بعد لحظة صمت، وقد تألق وهجه فجأة بفكرة جديدة:  

"ربما يمكنك أن تفعلِ شيئًا آخر. إن كنت أتذكر جيدًا، فإن الملكات لا يولدن من أيّ نجم، بل من نجم تمنى عليه بشري ذات يوم. ربما لا تزال موهبة الأحلام حيّة في داخلك، وفي المواهب التي تحكم. إن كان هناك ما هو أقوى من الخوف... فهو الأمل."


همست كلاريون بصوت خافت:  

"ربما." 

كانت تريد أن تصدق بشدة، لكنها شعرت أن الغبار قد فارق جسدها، وأصبح البرد قاسيًا جدًا.  

أسنانها تصطك من شدة البرد، وجناحاها تيبّسا تحت معطفها. كل نفس كان يظهر كبخار أبيض رقيق.


وضع ميلوري يده على كوعها، وكان لمسه خفيفًا وحنونًا.  

قال بلطف:  

"أنت ترتجفين."


حاولت كلاريون أن تبتسم:  

"لا داعي للقلق."


رد ميلوري بنبرة حازمة:  

"يجب أن نعيدها إلى الفصول الدافئة."


لأول مرة، وبذلك الحزم والجليد في صوته، فهمت كلاريون لماذا كان يُطلق على أسلافه لقب **أسياد الشتاء**.  

حاولت النظر إليه، لكنها كانت منهكة جدًا.


قال الحارس بجديّة:  

"خذوا فينريس... وانطلقوا."


تنفّس ميلوري براحة:  

"شكرًا لك. هيا يا فينريس، ."

 حلّق ميلوري نحو المخرج، و تبعه الذئب ، بينما مخالبه تصطك على الأرض الجليدية وهو يركض .  

أعادت كلاريون القفازات إلى الحارس، وكانت أصابعها قد شحب لونها من شدّة البرد، لكنها تجاهلت ذلك.  

"شكرًا لك، يا حارس."


أخذ القفازات ووضعها في جيبه.  

"دائمًا، يا جلالة الملكة."


ترددت لحظة، ثم تبعت ميلوري، تشدّ على قفازها وهي تمشي.  

وما إن خرجت إلى ليل الشتاء، حتى عصفت بها ريحٌ جليدية.  

شعرت بالألم من شدة الارتجاف، وأطراف أذنيها شعرت بالحرق من البرد.  

رفعت قبعتها لتغطي أذنيها، واندفنت في بطانة الفرو، تتمنى فقط أن تعود لسريرها وفنجان شاي دافئ.


وقف ميلوري على بُعد خطوات، يتلألأ بضوء القمر وانعكاس الجليد.  

وكان فينريس مستلقيا بجانبه، يحدّق بكلاريون بعينيه الصفراء نصف المغلقة.  

جمدت في مكانها من شدة تأثرها،  

فمشهد ميلوري المتوهج، والمسافة النجمية بينهما، جعل قلبها يخفق بقوة.  

وتقدّمت، وخُطى حذائها تنغرس في الثلج.


مدّ يده نحوها، فأمسكتها، وبيدها الأخرى قبضت على فرو فينريس.


"هيا."

طار ميلوري، وسحبها معه، وساعدها لتستقر فوق ظهر الذئب.  

أصدر فينريس صوتًا غاضبًا خفيفًا، وكأنه يتذمّر.


ربّتت كلاريون على كتفه:  

"آسفة يا صغير."


شخر الذئب، وبمجرد ما استقرت، ووقف منتصبًا.  

لكن تغير وزنها أفقدها التوازن، فتمسكت بفروه كي لا تسقط.


"هوف!"


كان ميلوري إلى جانبها في لحظة، يحلق في الهواء، مستعدًا لالتقاطها إن سقطت.


وعندما بدا أنها لن تسقط بشكل محرج في الثلج، فكّر وهو يبتسم...


قال باعتذار خفيف : "كان عليّ أن أُنبّهكِ لتتمسكي جيدًا،" .  

انطلق قائلا : "هيا."، ولحقه الذئب بسعادة.  

للمرة الثانية تلك الليلة، شعرت وكأنها تطير، رغم أن جناحيها كانا مقيدَين.  

كان ميلوري أمامها مجرد ومضة من الضوء وسط ظلام الغابة، يناور بين الجليد والأغصان المحمّلة بالثلج.  

ضحكت كلاريون تقريبًا وهي تستوعب ما كان يفعله بالضبط.  

تخيّلت لو أن أحدًا من فصول الدفء رآها بهذه الحالة...  

وردة فعلهم الصادمة أسعدتها أكثر مما ينبغي.  

على الأقل، بدّدت بعضًا من حزنها.


قادهم ميلوري إلى حدود الشتاء والربيع.  

وما إن استلقى فينريس حتى انزلقت كلاريون عن ظهره، وركضت عبر الجسر.  

وعندما تخطّت إلى جهة الربيع، بدأت تفك أزرار معطفها بأصابع مرتجفة متيبسة،  

وتركت المعطف يتكوّم عند قدميها.


لا يزال البرد الشتوي يلتصق بجلدها، لكنها فتحت جناحيها؛ متيبسين، لكنهما لا يزالان ذهبيين وسليمين.


اختفى قلق ميلوري،  والراحة التي أضاءت وجهه جعلتها تشعر بتوتر غريب.  

نزل من مكانه في الهواء وجلس على الجسر.


"كيف تشعرين؟"


"جسديًا؟ أنا بخير." 

فركت يديها ببعضهما، وسُرّت بعودة الإحساس إلى أصابعها.  

تراجعت بضع خطوات بعيدًا عن جهة الشتاء، حتى لم يعد البرد يصل إليها، وزفرت بعمق.


"أنا فقط محبطة لأنني لم أتمكن من أن أكون أكثر فائدة.  

لا أعلم إلى أين نمضي من هنا...  

لكن معرفة أن عوالمنا كانت قريبة يومًا ما..."


لا يمكن أن يسمحوا لإلفينا بتنفيذ خطتها.


"أعلم."

وبعد لحظة، سأل بتردد:  

"ما رأيكِ في كلام الحارس؟"


 "إذا كان هناك ما هو أقوى من الخوف، فهو الأمل."


انتزعت كلاريون بعض الثلج العالق في شعرها دون انتباه.  

"أنه يؤمن بي أكثر مما أؤمن بنفسي."


نظر إليها ميلوري بحزن.  

"أظن أنكِ قادرة على أكثر بكثير مما تظنين."


انقبض صدرها فجأة من شدة شعورها  

"لكن كيف تقول ذلك؟ أنت بالكاد تعرفينني."


وكأن الأمر بديهي، قال:  

"لأنكِ ولدت من أجل هذا.  

أشعر بذلك كلما نظرت إليكِ.  

ربما سحرك... أو ربما أنتِ نفسك.  

أيًا كان، هناك هالة تحيط بك.  

صحيح أنك تفرضين الاحترام،  

لكن أكثر من ذلك، أنتِ تبعثين الأمل.  

وهذا الشعور... لم أحسه منذ وقت طويل."


احمر وجه كلاريون.  

شعرت بأنها مغلوبه على أمرها، حتى أنها نسيت كيف تتكلم.  

"واو."


تجمد تعبير وجه ميلوري، وكأن ما قاله خرج منه دون قصد.  

"أعذريني، لم أقصد—"


قاطعته كلاريون برقة:  

"لا تعتذر، رجاءً.  هذا ألطف شيء قيل لي في حياتي."


هل ولدت لهذا؟  

كلاريون لم تؤمن بذلك من قبل.  

لكن مع تلك النظرة الصادقة من عينيه الرماديتين،  

كادت تصدّق أنها ولدت حقًا لهذا الدور.


ربما... إن سمحت لنفسها.....

إن أقنعت نفسها للحظة أنها تستحق التاج الذي سيكون من نصيبها قريبًا...  

ربما كانت قادرة على فعل ذلك.


مملكة "جوف الجنيات " متحدة وآمنة ، كان يستحق أن تُقاتل لأجله.  

وبرغم خوفها، عليها أن تحاول. من أجل جنيات الشتاء.  

من أجل راون والبقية.  

وإن كانت هناك أي فرصة لكسر تعويذة الكوابيس التي أُسرت بها الجنيات،  

فالأمر يستحق المخاطرة.


قالت كلاريون، بنبرة تحمل حزمًا يفوق ما تشعر به في داخلها:  

"غدًا، خذني إلى ذلك السجن.  

أريد أن أختبر نظرية الحارس."


---


تعليقات