رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الرابع عشر | مترجم
قادتهم "نوكتوا" إلى شجيرة ضخمة، حيث أقام أصحاب المواهب العلاجية الشتوية عيادتهم.
كانت أوراقها تبدوا فضية تحت ضوء القمر، تتدلى منها عناقيد التوت الأحمر فوق الأغصان المغطاة بالثلج .
كان كل شيء ساكنًا بشكل مدهش في تلك الساعة. لم تسمع "كلاريون" سوى رفرفة جناحي "نوكتوا" وهي تهبط.
ساعدها "ميلوري" على النزول من مقعدها، وقادها عبر فجوة بين ألاغصان .
تسلل ضوء باهت من بين الأوراق، مرسومًا على الأرض الصلبة، مشعلًا طبقة الصقيع. ومع تقدمهم، بدأ الطريق ينحدر نحو الأسفل.
سألت "كلاريون" بدهشة خفيفة:
"هل هو تحت الأرض؟"
أجاب "ميلوري":
"قليلًا فقط... ليبقى بعيدًا عن الرياح."
شعرت "كلاريون" بالدفء مقارنة بالخارج، ومع ذلك، كانت أنفاسها تتكثف في الهواء. تسلل البرد عبر تمزقات معطفها، لكنها شدّت فكّيها كي لا ترتجف.
توقفوا أمام ستارة من الطحالب. حاولت ألا تلتفت إلى قطرات الدم التي تسيل من أطراف أصابعها، وتلك التي تنقط على الأرض.
قال "ميلوري" بهدوء:
"مرحبًا؟"
أُزيحت الستارة، وظهر وجه إحدى المواهب العلاجية. كانت بشرتها بلونٍ شاحب، وشعرها الأبيض يحيط بوجهها وهو يتموج بضيق. مثل المعالجين في المواسم الدافئة، كانت ترتدي رداءً أبيض.
قالت المعالجة بابتسامة تلاشت حين رأت كلاريون، وحلّت محلها دهشة قصيرة:
"ميلوري..."
كانت كلاريون تعلم أنها تبدو في حالة مروعة. الدم الجاف غطى يديها وتسرّب إلى المعطف الجميل الذي خاطته لها بترا ، محوّلًا لونه الذهبي إلى أحمر صارخ. نصف شعرها انفلت من ضفيرته، متشابكًا ومتجمدًا حول كتفيها.
سألت المعالجة:
"من هذه؟"
أجاب "ميلوري" بصوت ضعيف:
"هذه... الأميرة كلاريون."
راقبت "كلاريون" وجه المعالجة وهي تتقلب بين عشرات التعابير قبل أن تستقر على ملامح القلق.
"هل لي أن أسأل كيف انتهى بك الأمر إلى هذه الحالة؟"
تألم ميلوري قليلًا وهو يجيب:
"واجهنا بعض المتاعب."
قالت المعالجة بنبرة مشوبة بالاهتمام:
"واضح ذلك... وأنت؟"
أجاب ميلوري بسرعة، رافعًا يديه:
"أنا بخير."
ردة المعالجة وهي تعيد ترتيب ملامحها إلى شيء من الاشمئزاز الجاد، لكن كلاريون لاحظت في عينيها مودة خفية، نابعة من علاقة طويلة ومعرفة عميقة. كانت مندهشة من الطريقة الطبيعية التي يتحدث بها الآخرون إلى ميلوري.
قالت المعالجة له بلهجة حازمة:
"كن أكثر حذرًا معها في المستقبل."
أجاب ميلوري وقد بدا عليه التأنيب:
"سأفعل."
همست كلاريون له وهي تبتسم بسخرية لطيفة:
"أعجبني ذلك."
رد مبتسمًا:
"توقعت ذلك. هذه يارو."
انحنت "يارو" وقالت باحترام:
"يشرفني لقاؤك، صاحبة السمو. فقط كنت أتمنى لو كان في ظروف أفضل."
قالت "كلاريون" وهي تشعر بالدهشة:
"وأنا كذلك... من الغريب أن يُعاملني أحد بلطف واحترام. كم أتمنى لو كانت المواسم الدافئة هكذا."
قادتهم "يارو" عبر ستارة الطحالب إلى غرفة المعيشة. توقفت "كلاريون" عند المدخل، واضعة يدها على صدرها. كانت الغرفة مليئة بالأسرّة المصنوعة من منصات ثلجية، تغطيها شبكات من الأغصان. كل سرير كان يحتضن جنية غارقة في أحلامها المعذبة. كان عددهم أكبر بكثير في الشتاء. شعرت "كلاريون" بألم في قلبها من أجلهم... ومن أجل "ميلوري"، الذي كان يتأمل المكان بعينين مليئتين بالذنب.
أرادت أن تقول له: "ليس ذنبك"، لكن "يارو" دفعتها برفق إلى الأمام. وضعتها على سرير مغطى بالبطانيات، فلفّت واحدة حول كتفيها وتنهدت براحة.
اقترب "ميلوري" منها وهمس:
"هل ستكونين بخير وحدك لبضع دقائق؟"
أجابت بابتسامة مشجعة:
"بالطبع... اذهب."
أومأ برأسه، والامتنان بادٍ على وجهه. وفي لحظات، كان قد عبر أرضية غرفة المرضى وبدأ يتحدث بصوت منخفض إلى معالج آخر، بينما يلقي بين الحين والآخر نظرات قلقة نحو الجنيات النائمات.
قالت "يارو" وهي ترتب البطانيات والوسائد حولها بعناية:
"لقد كان يأتي إلى هنا كل يوم، تعلمين؟ هل تشعرين بالدفء؟"
أشاحت "كلاريون" بنظرها عن "ميلوري"، خجلة من أنها كانت تحدق فيه.
"أنا بخير، شكرًا لك. هل فعل ذلك حقًا؟"
أومأة "يارو":
"لا يستطيع فعل الكثير، لكن..."
أكملت "كلاريون" بصوت خافت:
"لكنه يشعر بالمسؤولية."
كانت تعرف هذا الشعور جيدًا.
"أنا أعلم أنه يهتم كثيرًا."
قالت "يارو" بعد لحظة صمت وكأنها تنتقي كلماتها بعناية:
"نعم، هو محبوب جدًا في الشتاء. وأنا سعيد لأنه وجدك. لم نره بهذا القدر من الأمل منذ وقت طويل."
أرجعت "كلاريون" خصلة من شعرها خلف أذنها، لكنها ندمت حين شعرت بحرارة الخجل تتسلل إلى وجهها.
"لم أفعل شيئًا مميزًا."
ابتسمت "يارو" بمعرفة:
"كما تقولين. حسنًا، دعينا نلقي نظرة."
تركت "كلاريون" البطانية تنزلق عن كتفها، ومدّت ذراعها. كان منظر الدم يثير اشمئزازها، لكنها لم تتفقد الجرح من قبل. فقد التصق قماش المعطف الممزق بجلدها، مخفيًا أسوأ ما فيه.
قالت "يارو" مستنكرة:
"لا يمكنك خلع المعطف، لذا سأضطر إلى قصّ الكم لأتمكن من رؤية الجرح بوضوح."
تألمت "كلاريون" في داخلها. كانت تعلم أن بترا ستغضب منها لإفساد تحفتها بهذه الطريقة، لكن هذا أمر ستفكر فيه لاحقًا.
"لا بأس."
أومأة "يارو" وغادرت إلى غرفة أخرى داخل العيادة.
في القاعة الرئيسية، كان الجو مظلمًا ودافئًا تحت ضوء الشموع. كل شيء يتلألأ بانعكاس الضوء عبر قطرات الجليد المتدلية من السقف.
كانت الرفوف على الجدران مزدحمة بالكتب وأباريق الشاي، وقشور الجوز المملوءة بالمحاليل، وأوعية زجاجية من أعشاب مجففة.
كان الهواء يحمل رائحة ترابية منعشة. لم تكن "كلاريون" تدرك من قبل كم من الأشياء تنمو في الشتاء. كيف ظنّ أحد أن هذا الفصل يخلو من الحياة؟
عاد انتباهها إلى "ميلوري"، الذي بدأ يساعد المعالج الآخر. كانا يتنقلان من سرير إلى آخر، يساعدان الجنيات على شرب الماء. كان قلبها يخفق بمشاعر دافئة عميقة. كيف ظنّت يومًا أنه بارد؟
بعد دقائق، عادت "يارو" تحمل سلة منسوجة، وكوبًا حجريًا يتصاعد منه البخار، ومقصًا صغيرًا دقيقًا.
قصّت كم المعطف الملطخ بالدم، فتأوهت "كلاريون" حين لامس الهواء البارد جرحها المكشوف. وضعت المقص على الطاولة الجانبية، وانحنت لتفحص الجرح عن قرب. أدارت ساعدها برفق وقالت:
"الجرح نظيف، لكنه عميق نوعًا ما. سأحتاج إلى خياطته. سيشفى بسرعة، لكن عليكِ أن تضعي ضمادًا عليه طوال الليل."
شعرت "كلاريون" ببعض الراحة، لأنها لن تضطر لشرح سبب إصابتها أو تبرير ارتداءها للأكمام الطويلة في الصيف.
"حسنًا."
بدأت "يارو" تبحث في السلة، وأخرجت إبرة دقيقة معقوفة، وضمادًا مصنوعًا من العرعر واللُّسْنِيَة وبذور الكتان، ملفوفًا بأوراق نباتية.
عملت بصمت، نظفت الجرح وخيطته. كانت "كلاريون" تحدق في الحائط بعزم، مصممة ألا تتألم مع كل غرزة تخترق جلدها. وعندما أنهت وضع الضماد، ناولتها كوبًا.
سألت:
"ما هذا؟"
أجابت "يارو":
"شاي من شجرة البلسم ونبتة الشتاء الأخضر. يساعد على الشفاء ويخفف الالتهاب."
رفعت "كلاريون" الكوب إلى شفتيها. كانت رائحته تشبه الراتنج، وطعمه كذلك. لكنه دفّأ يديها، وهذا كل ما كانت تحتاجه في تلك اللحظة.
"شكرًا لك."
نظرت إليها "يارو" بصرامة:
"حاولي ألا تجهدي الجرح قبل أن يلتئم. لا تقومي بأي نشاط مرهق."
قالت في نفسها: لن أفعل.
تابعت:
"سأعطيك هذا الضماد لتأخذيه معك إلى المنزل. ضعيه مرة يوميًا." ثم ضيّقت عينيها:
"لا تنسي."
كانت "يارو" صريحًتا جدًا. ابتسمت كلاريون وقالت:
"لن أنسى."
تأملتها "يارو" قليلًا وقالت:
"آمل أن تعودي قريبًا، صاحبة السمو، وإن لم يكن إلى هنا. هناك الكثير لتريه في الشتاء، بعيدًا عن ذلك البحيرة الكئيبة." ثم أضاءت وجهها بفكرة مفاجئة:
"هل تعلمين أن "ميلوري" متزلج بارع على الجليد؟ أنا واثق أنه سيعلمك."
ابتسمت "كلاريون":
"سيسعدني ذلك."
كان عليها أن تجد طريقة لإيقاف الكوابيس قبل أن يتحقق مخطط "إلفينا". لم تكن لتتخلى عن جنيات الشتاء وتتركهن فريسة لتلك الكوابيس. رفضت ذلك تمامًا. وكان هذا الإصرار يشعل في داخلها نارًا من العزيمة.
ما إن انتقلت "يارو" إلى المريض التالي، حتى عاد "ميلوري" إلى جانبها.
"كيف تشعرين؟"
ابتسمت له "كلاريون" ابتسامة صغيرة. كانت "يارو" قد مسحت الدم عن جلدها، ولم يتبقَ سوى خط من النقاط المرتبة. لاحظت كيف كان "ميلوري" يتأمل الجرح، وخصلة من شعره الأبيض سقطت على جبينه وهو يميل برأسه. قاومت رغبتها في تعديلها له.
قالت:
"أفضل بكثير. أشعر ببعض البرد."
قال " يجب أن نأخذك إلى المنزل"
المنزل ! ، كانت تخشى أكثر فأكثر فكرة مغادرة الشتاء.
"صحيح. فكرة جيدة."
في الخارج، كان "نوكتوا" ينتظرهم، بريشه الأبيض المنتفش يلمع تحت ضوء القمر البارد.
صعدا على ظهره، وهذه المرة، حين أحاط "ميلوري" ذراعَه بها، شعرت "كلاريون" بالامتنان لقربه. كان ساعدها المكشوف يؤلمها من البرد، والريح التي تسللت تحت كمّها الممزق جعلتها ترتجف حتى العظم. انطلق "نوكتوا" محلّقًا نحو الربيع، والرياح المتزايدة تدور حولها. حتى في الظلام، كان الشتاء يخطف الأنفاس بجماله. غابات لا تنتهي من أشجار الصنوبر المغطاة بالثلج امتدت أمامهم.
مالت "كلاريون" بوجهها نحو "ميلوري" حتى استطاعت رؤية ملامحه مرسومة بضوء النجوم. بدا جادًا، شاردًا، غارقًا في أفكاره.
لقد مر وقت طويل منذ رأيناه بهذا القدر من الأمل.
لم تصدق أنها تملك هذا التأثير عليه. وإن كان صحيحًا، فهي تريد أن تخرجه من حزنه قدر ما تستطيع.
"حسنًا، لم تسر الأمور كما خططنا تمامًا."
ضحك. وكان صوته جميلًا، يزداد جمالًا لأنه نادر.
"لا، بالتأكيد لم تسر."
قال:
"لكننا سنجد طريقة. المرة القادمة ستكون أفضل."
كررها وكأنها وعد:
"المرة القادمة."
قالت مازحة:
"سأضطر لإصلاح معطفي أولًا." ثم شدّت خيطًا مفكوكًا من كمّها.
"لست متأكدًا كم سيستغرق ذلك. استغرق الأمر بضعة أيام في المرة الأولى."
ردّ دون تردد:
"لا يهمني. سأنتظرك."
تأملت "كلاريون" وجهه وهو ينظر للأمام. كان فيه شيء مؤلم من الهشاشة. وحدة ؟ كيف لا ؟ ، وهو يقضي وقته بين كتب لا تُقرأ، أو واقفًا على الحدود، أو يحرس سجنًا لا يمكن حراسته. كان مقيدًا بالواجب، ومصيره دائمًا أن يفشل.
قالت فجأة:
"يمكنني زيارتك." ثم تمنت لو صاغتها بطريقة أقل حماسة. تنحنحت وأضافة:
"إن كنت ستنتظرين هناك على أي حال. يمكننا أن نخطط لخطوتنا التالية."
وبنفس نبرة التظاهر باللامبالاة، قال:
"كما تشائين."
نظرت إليه نظرة تقول: وهل تعرف ما أشاء؟
تأمل ميلوري تلك النظرة ثم قال وكأنه لم يستطع الاستمرار في التظاهر :
"سيسعدني ذلك."
لم يخطئ في ملاحظة الاحمرار الخفيف الذي ظهر على أطراف أذنيها.
قالت:
"حسنًا إذًا... أراك غدًا."
ابتسم ابتسامة هادئة:
"غدًا."
شعرت بخفة غريبة، كأنه دوار داخلي. رغم أنها كانت تحلق عاليًا فوق غابات الشتاء، شعرت "كلاريون" وكأنها تسقط .
بين الكوابيس و"ميلوري"، وجدت "كلاريون" نفسها في ورطة أكبر بكثير مما توقعت.
-----------------------
في صباح اليوم التالي، وقفت "كلاريون" و"أرتميس" أمام باب "بترا" مع أول ضوء للفجر.
في البداية عندما استيقطت كلاريون من النوم، كانت تشعر بمزاج جيد بشكل غريب. لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ تذكّرت أنها على وشك أن تفسد يوم "بترا"، وربما شهرها بالكامل.
في حقيبتها كان المعطف الممزق والملطخ بالدم، ذلك المعطف الذي خاطته "بترا" لها بكل حب وسخاء. أما الخبر الجيد الوحيد في كل هذه الفوضى، فهو أن الحذاء نجا من المعركة بخدش بسيط فقط.
سألتها "أرتميس":
"هل ستطرقين الباب؟"
أدركت "كلاريون" أنها كانت تحدق في الباب وفكّاها مشدودان. أجبرت وجهها على الاسترخاء.
"أنا أستعد نفسيًا."
نظرت إليها "أرتميس" بنظرة تجمع بين التعاطف والشفقة.
"أنا متأكد أنها ستتفهم الأمر."
ردّت "كلاريون" بشك:
"سنرى." حتى "أرتميس" لم تبدو مقتنعًا تمامًا بكلماتها.
"قد أضطر للتدخل."
قالت بحزم:
"أنا جاهزة."
تنهدت، ثم طرقت الباب وقالت:
"بترا، أنا أرتميس."
لم تمر سوى لحظة حتى فتحت "بترا" الباب بعنف. كانت تبدو متعبة، لكن وكأنها مستيقظة منذ وقت طويل. وجهها مغطى ببقع الزيت، وحرارة ورشتها تتصاعد من خلفها.
"هل تعرفان كم الساعة الآن؟"
ابتسمت "كلاريون" ببراءة:
"الفجر؟"
ردّت "بترا" بنبرة متوترة:
"بالضبط..." ثم توقفت فجأة وأطلقت صوتًا مكتومًا حين رأت "أرتميس".
"واو... صباح الخير."
قالت "أرتميس" بجفاء:
"صباح الخير."
نقلت "كلاريون" نظراتها بينهما، محاولة إخفاء انزعاجها.
"هل ستدعينا للدخول؟"
تأففت "بترا"، لكنها تنحت جانبًا لتسمح لهما بالدخول.
"لديكِ تلك النظرة في عينيكِ مجددًا. ما الأمر هذه المرة؟"
قررت "كلاريون" أن الأفضل أن تنهي الأمر بسرعة. أزاحت كومة من الأدوات عن الطاولة ، ثم أفرغت محتويات حقيبتها فوقها.
أطلقت "بترا" أنينًا خافتًا من الاستياء.
"ماذا فعلتِ؟"
تألمت "كلاريون":
"ربما... حصلت لي حادثة صغيرة."
نظرت إليها "أرتميس" بنظرة حادة تقول بوضوح: كان بإمكانكِ التعامل مع هذا بشكل أفضل.
صرخت "بترا":
"كل عملي الشاق... دُمّر! بالكامل!"
أمسكت بكمّ المعطف الممزق، وبعد لحظة من الفحص، رمته عبر الغرفة وهي تصرخ بدهشة:
"هل هذا دم؟!"
همست "كلاريون" وهي تنظر حولها بقلق:
"اخفضي صوتك... نعم، إنه دم. لا داعي للقلق."
أمسكت "بترا" بكتفي "كلاريون" وهزّتهما بقوة. ومن زاوية عينها، رأت "أرتميس" تتحرك، وكأنها تفكر في التدخل. لكنها في النهاية تنهدت بصبر، وضمّت ذراعيها خلف ظهرها.
سألت "بترا" بانفعال:
"ماذا تقصدين بـ 'لا داعي للقلق'؟ هناك وحوش طليقة، وقررتِ فجأة أن تركضي وسط غابة الشتاء، والآن تظهرين على عتبة بابي ودماء على ملابسك؟"
ورغم أن وصفها بأنها "ركضت" أزعج "كلاريون"، إلا أنها اعترفت في نفسها أن كلام "بترا" بدا سيئًا بالفعل.
"يبدو الأمر أسوأ مما هو عليه. أنا بخير. الجرح بسيط، على أي حال."
رفعت كمّها لتُري "بترا" شريط الشاش الملفوف حول ساعدها. لحسن الحظ، كان يخفي الغرز تحته.
تركتها "بترا" وجلست بتثاقل على كرسيها. وفي زاوية الغرفة، سقط شيء على الأرض، لكنها بالكاد انتبهت له.
قالت:
"كنت قد قلت إنني لا أريد أن أعرف، لكنني قررت أن الجهل أسوأ بكثير. ما الذي يحدث معك؟"
كان في صوتها شيء أعمق من قلقها المعتاد. كان فيه رجاء حقيقي، ونظرت إليها بعينين تحملان اتهامًا: أشعر وكأنني لم أعد أعرفك.
كرهت "كلاريون" أن تخيب أمل "بترا"، وأنها لا تعرف كيف تتوقف. لكنها فكرت: إن لم تستطع أن تكون صادقة معها، فماذا تبقّى من صداقتهما؟ لا يمكنها أن تخسرها بعد كل ما مرّتا به معًا.
قالت "كلاريون":
"إذا أخبرتك، عليكِ أن تعديني ألا تخبري أحدًا."
ردّت "بترا" باستسلام:
"لم أخبر أحدًا أنكِ ذهبتِ إلى غابة الشتاء من قبل. لكنني أكره الأسرار، يا كلاريون. أنتِ تعرفين أنني سيئة في حفظها، لكن... سأحاول. من أجلك."
قالت "كلاريون" بخفة:
"وعليكِ أن تعديني ألا تصرخي أيضًا."
حدّقت فيها "بترا"، واعتبرتها "كلاريون" موافقة.
قالت:
"قبل أسبوعين، عندما ظهرت الكوابيس لأول مرة في 'مملكة الجنيات'، ذهبتُ إلى حدود الشتاء. كنت أظن أنني سأجد أثرًا هناك. لم أجد، لكنني وجدت شيئًا آخر... أو بالأحرى، شخصًا. حارس غابة الشتاء."
بدت "بترا" وكأنها على وشك أن تُغمى عليها أو تنفجر.
"حارس غابة الشتاء؟ هل قابلتِه فعلاً؟"
قالت "كلاريون" وهي تمسك بمرفقها:
"اسمعيني فقط. كنت متشككة في البداية. لكنه ليس سيئًا كما يبدو، عندما تتعرفين عليه."
ضحكت "بترا" ضحكة متوترة، صوتها كان هشًا. ثم خطر لها شيء:
"يعني قابلتِه أكثر من مرة؟"
أجابت "كلاريون" بتردد:
"بعض المرات..."
شهقت "بترا":
"تجاوزتِ الحدود لتريه؟"
احمرّ وجه "كلاريون":
"نعم، لكن..."
قاطعتها "بترا" بنبرة مشمئزة:
"أنتِ تتسللين لتري فتى؟"
لكن نبرتها لم تكن قاسية حقًا. لم تكن "بترا" من النوع الذي يهتم كثيرًا بـ"رجال "، وفكرة أن تجد أحدهم جذابًا لدرجة المخاطرة بحياتها كانت مزعجة لها.
أطلقت "أرتميس" صوتًا بدا وكأنها ضحكة مكتومة.
صرخت "كلاريون" محتجة، مدركة متأخرة أن ردّها لم يكن نفيًا صريحًا:
"ليس الأمر كما تظنين!"
لكن عيني "بترا" لمعتا بانتصار ساخر.
قالت "كلاريون":
"لقد وجدنا طريقة لإيقاف الكوابيس. ولهذا أحتاج مساعدتك."
ردّت "بترا" وهي تشير إلى المعطف الممزق في الزاوية:
"وهذا هو معنى إيقافها؟ لا يجب أن يكون لكِ علاقة بهذا. إنه خطر جدًا."
لم تستطع "كلاريون" إخفاء نبرة الغضب في صوتها:
"لقد سئمت من أن يُقال لي إن كل شيء خطر جدًا."
قالت "بترا":
"لكنه فعلاً خطر ! ، أعلم أن الأمر لم يكن يقلقكِ يومًا، لكن بعضنا يفضل الاختباء في زاويته."
قالت "كلاريون" بلطف:
"بترا..."
قاطعتها "بترا" بنبرة شبه متوسلة:
"لا. لا تستخدمي صوت الملكة معي. لا أستطيع... لا يمكنني أن أراكِ تعودين إلى المنزل بهذه الحالة. أنا صانعة أدوات، لست معالجة. أستطيع إصلاح معطفك أجل ، لكني ارى أنك لا تستطيع إصلاح نفسك."
للحظة، وقفتا في صمت هش، تتبادلان النظرات وسط ظلام ورشة "بترا".
شعرت "كلاريون" وكأنها وحش بالفعل. هل هذا ما تراه فيها "بترا"؟ مجرد متهورة لا تبالي؟
شعرت "أرتميس" أن الوقت قد حان لتترك لهما المجال، فخرجت من الغرفة بصمت.
وما إن أُغلق الباب خلفها، حتى وجدت "كلاريون" صوتها من جديد، تكافح لتخفي ألمها:
"ما كنت لأطلب مساعدتك لو كان لدي خيار آخر. لا يوجد أحد آخر أثق به."
تنهدت "بترا" بقلق:
"أنتِ و'إلفينا' تعتمدان عليّ لتنفيذ خططكما. أن أكون في هذا الموقف ليس سهلًا عليّ."
قالت "كلاريون" وهي تشعر بالذنب يغمرها:
"أعلم. لكن خطتها مضللة. من واجب الملكة أن تحمي شعبها، لا أن تترك المملكة تواجه مصيرها وحدها."
عبست "بترا"، وأمسكت بمقص الخياطة دون وعي، والصراع واضح على وجهها.
تابعت "كلاريون":
"أنا آسفة لأنني وضعتكِ في هذا الموقف، وسأكون حذرة قدر استطاعتي. لكنني لا أستطيع أن أتراجع. لن أفعل، سواء كنتِ معي أو لا، لأنني للمرة الأولى أشعر أنني أفعل ما يجب عليّ فعله."
تأوهت "بترا"، وكان ذلك علامة على أنها بدأت تستسلم.
"حسنًا. اعتبريه هدية تتويجك. لكن إن عاد إليّ ممزقًا مرة أخرى..."
قاطعتها "كلاريون" وهي تلهث من الامتنان:
"لن يعود. شكرًا لكِ، بترا."
ردّت "بترا" وهي تعود إلى طاولتها وتعيد ترتيب أدواتها:
"احتفظي بشكرك لنفسك. فقط... عيشي."
شعرت "كلاريون" بأنفاسها تختنق في صدرها.
"سأفعل."
تعليقات
إرسال تعليق