رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الخامس عشر | مترجم

 "جلالتك؟"


استيقظت كلاريون بفزع، لتجد نفسها متكئة على مكتبها -على الأقل لم تسقط من كرسيها من شدة المفاجأة- ، التفتت نحو الباب، حيث ظهرت علبة خياطة تقف في المدخل. وكانت أرتميس خلفها مباشرة، تحمل تعبيرًا اعتذاريًا وكأنها تقول: *حاولت أن أوقفها.*


قالت كلاريون بفتور: "مرحبًا."


كانت أطراف أصابعها مخدّرة وهي تسند رأسها على يدها. كانت أشعة الشمس بعد الظهر تتسلل عبر النافذة، وهو أمر أشعرها بالانزعاج قليلًا. لقد نامت لساعات، ولا تكاد تتذكر متى غفت بالضبط. ولم تكن تنوي أخذ قيلولة على الإطلاق.


حاولت أن تسترجع ما حدث. بعد خلافها مع بيترا هذا الصباح، وصلت متأخرة إلى اجتماع المجلس الأسبوعي، وهناك سكبت محتوى فنجان الشاي على ملاحظاتها، وعلى فستان وزيرة الربيع الجديد أيضًا. وعندما عادت إلى غرفتها، لا تزال تشعر بالإحراج، حاولت أن تبعد  خليط الشاي والحبر في دفترها.


لا بد أن هذا ما جعلها تغفو. من الواضح أن السهر والاستيقاظ المبكر لا يناسبها.


قالت الخياطة بلطف: "لا أريد أن أزعجك، لكن لديك موعد قياس للفستان."


كانت قد نسيت تمامًا أن لديها موعدًا اليوم. لا شك أن باتش، الخياطة الملكية، ستكون مستاءة من تأخرها. كانت قد صنعت لها فستانًا للتتويج، لكن كلاريون تحتاج إلى فستان جديد للحفل.


قالت وهي تضغط راحتيها على عينيها: "شكرًا لك. هل نذهب؟"


قادها شغف الخياطة إلى ورشة باتش. كانت المواهب المساعدة، مثل التنظيف والتلميع، تجوب الممرات وتلاحق المواهب التنظيمية. وكانت كلاريون  تطلق على تلك المجموعة اسم "دائرة إلفينا للمُزيّنين الموثوقين".

 كانوا يتنقلون في أرجاء القصر، يصرخون بالأوامر على مساعديهم، ويفحصون أدق تفاصيل أعمال بعضهم البعض. لاحظت أن باتش في المواهب الخياطة كان يتجنبهم بمهارة وذكاء.


وعندما وصلوا أخيرًا، استقبلهم صوت حاد: "ها هم!"


كان باتش يطفو في وسط ورشته. جسده نحيف، وملامحه حادة، وبشرته بيضاء شاحبه ، وكأنه لم يرَ الشمس منذ زمن. شعره البني الداكن منسدل في جديلة أنيقة تستقر فوق عباءته السوداء الفاخرة التي تشبه زهرة الكالا. وكان شريط القياس يتدلى من عنقه كأنه أفعى.


كانت لفائف القماش بألوان لا تُحصى مصطفة على الرفوف. وكانت نماذج الفساتين نصف المنجزة منتشرة في أنحاء الغرفة، التي بدت وكأنها تتوهج تحت ضوء الشمس المنعكس من المرآة المزخرفة، وكذلك على خيوط الحرير الناعمة التي جمعها باتش في سلال. 

وخارج النافذة، امتدت شبكة ضخمة بين أغصان شجرة غبار الجنيات، كل خيط فيها يلمع كالذهب تحت ضوء العصر. من هناك كان باتش يحصل على الحرير لتطريزاته الرائعة ودانتيله الفاخر. ولا شك أن "فيل"، زميله في نسج الشبكات، كان يستمتع بجمع ذلك الحريؤ.


لكن ما جذب انتباه كلاريون عند دخولها الغرفة كان وزيرة الصيف. كانت أورليا جالسة في كرسي مريح، تغفو تحت أشعة الشمس، ويدها الأنيقة تستند إلى ذقنها. كانت ترتدي فستانًا من بتلات دوار الشمس، بلونه الذهبي الساطع الذي يتباين مع بشرتها السمراء العميقة. وكعادتها، بدت مشرقة ومتألقة كالصيف نفسه.


قالت كلاريون بدهشة: "وزيرة؟ ماذا تفعلين هنا؟"


نظرت أورليا إليها بعينيها الذهبيتين الفضوليتين: "فاتني لقاؤك في وقت سابق."


لاحظت كلاريون ذلك. لقد فوتت لقائها مع أورليا فقط لأنها غفت. "يا إلهي، أنا آسفة جدًا."


ردت أورليا بلا مبالاة وهي تلوّح بيدها: "لا بأس. يمكنني مناقشة الأمر معك هنا. أردت رأيك في قائمة الطعام لحفل التتويج. أحضرت بعض المواهب الطهوية، لكن باتش طردهم من الغرفة."


رمقها باتش بنظرة حادة: "لأنك إن لوّثتِ هذا الفستان، فسوف—"


قاطعته أورليا وهي تكتم تثاؤبها: "اهدأ. يمكننا الانتظار حتى تنتهي."


قال باتش باختصار: "جيد."


ثم لم يضيع وقتًا، ووضع كلاريون خلف حاجز الخصوصية، حيث كان فستان الحفل بانتظارها. كان القماش يلمع بشكل رائع وينساب بين يديها كالماء. خلعت ردائها، محاولًة إخفاء ذراعها المصابة. وإذا لاحظ باتش ذلك، فلم يعلّق. ربطها بالفستان بخبرة، ثم قادها من كتفيها إلى المرآة في غرفة النوم الرئيسية. 

"ما رأيك؟"


في الحقيقة، كان أجمل شيء امتلكته كلاريون على الإطلاق. تنورتُه كانت من قماش ذهبي ينساب إلى ذيل طويل أنيق. كانت ترفرف خلفها عندما تتحرك ،  أما الأكمام، فكانت من قماش شفاف يصل إلى الأرض، في تلك اللحظة، شعرت وكأنها ملكة.


قالت: "إنه مثالي يا باتش. أعشقه."


رأت انعكاس نظرات الإعجاب من أورليا وباتش في المرآة. قال باتش وهو يبدو راضيًا: "رائع. سأجري بعض التعديلات النهائية فقط."


مرت عشرون دقيقة بسرعة. وبينما كان باتش يثبت الدبابيس في الحاشية والأكمام، استأذنت وزيرة الصيف للحظة، ثم عادت ومعها فريقها من مواهب الطهو، وكان باتش يبدو منزعجًا بوضوح بينما كانوا يجهزون ما بدا لكلاريون وكأنه خدمة شاي كاملة في زاوية من ورشته.


قال باتش بحدة: "إذا وجدت بقعة على أي شيء، حتى لو كانت نقطة واحدة فقط..."


ردت أورليا بهدوء تام: "لن تجد."


بدأ الاثنان يتجادلان، لكن كلاريون بالكاد كانت تتابع ما يقولانه. ومع عدم وجود أحد يتحدث إليها مباشرة، بدأت الأفكار التي كانت تحاول تجاهلها تطفو أمامها: حفل التتويج الذي يقترب، الكوابيس، ميلوري...


*عليّ أن أعود إلى الشتاء بأسرع ما يمكن.*


وأخيرًا، بعد أن أنهى باتش من تثبيت الفستان، أعادها إلى حاجز الخصوصية لتبدّل ملابسها وتعود إلى الفستان الذي وصلت به. طوى باتش فستان الحفل بعناية وكأنه شيء ثمين، ثم نادى: "الطاولة لكِ الآن، أورليا."


عندما خرجت كلاريون من خلف الحاجز ، كانت أورليا قد جلست إلى الطاولة التي أعدها الطهاة في الزاوية على مفرش من دانتيل حرير العنكبوت .

كانت واحدة من أفخم الطاولات التي رأتها كلاريون في حياتها. ...

كان عليها حامل متعدد الطبقات يعرض فطائر محشوة بشرائح رقيقة من اليقطين والطماطم، وأخرى بالمشمش والتوت الأسود ، وبجانبه وعاء من شوربة البطيخ الباردة، مزينة بورقة نعناع ورشة زيت زيتون. وحتى كعكة البرقوق كانت موجودة، ومعها أكياس صغيرة من المربى تفوح منها رائحة الهيل والقرفة.


كل شيء كان ينبض بألوان الصيف وروائحه. كان من المفترض أن يبعث على البهجة، لكنه جعل كلاريون تشعر ببرودة غريبة. كيف يمكنها الجلوس هنا وتخطط لحفل، بعد ما رأته في الشتاء؟ هناك الكثير من الجنيات يعتمدن عليها لتنقذهن. ومع ذلك، كانت أورليا تجلس أمامها، وعينيها تلمعان بتوقع واضح.


ابتسمت كلاريون ابتسامة مجاملة وجلست أمام أورليا. "كل شيء يبدو رائعًا."


تنفست أورليا براحة: "يمكننا تعديل أي شيء ترغبين به."


نظرت كلاريون إلى الأطباق، ولم تكن تعرف من أين تبدأ، ولم تكن تعرف كيف ستتجاوز هذا الموقف، خاصة أن التوتر قد سلبها شهيتها. ومع ذلك، ملأت طبقها بعينات صغيرة من كل صنف، وبدأت تأكل دون أن تتذوق شيئًا فعليًا.


وفي منتصف أول لقمة، تنهدت أورليا وقالت: "جلالتك، هل هناك ما يزعجك؟ يبدو أنك شاردة."


ابتلعت كلاريون الطعام دون أن تمضغه جيدًا. "لا، لا شيء."


نظرت إليها أورليا بعينيها الذهبيتين، وكأنها تقرأ ما وراء الكلمات. "هل هو نفس السبب الذي جعلك تفوتين لقائي؟"


تألمت كلاريون قليلًا وقالت: "الأمر فقط... كل شيء يحدث بسرعة كبيرة."


كل يوم يقترب موعد التتويج، وكلاريون تشعر أكثر فأكثر أنها لن تستطيع الوفاء بوعودها للجميع. الوقت ينفلت من بين يديها. والآن، بدأت تخشى أن علاقاتها الأقرب لم تعد كما كانت.


قالت أورليا بعد تفكير: "في البر الرئيسي، الصيف هو فصل التناقضات. وقت تريد فيه ألا تفعل شيئًا، وتريد أن تفعل كل شيء. البشر قد يقضون يومًا كاملًا مستلقين على العشب، أو يسهرون طوال الليل يرقصون تحت النجوم. الحرارة تفعل ذلك بهم."


*كم تمنيت لو كان لدي هذا الترف.*  

قالت كلاريون: "أفهم."


قالت أورليا: "ما أعنيه، على ما أظن، هو أن الصيف يشجعنا على أن نتذوق لحظاتنا، بالطريقة التي نختارها."


نظرت كلاريون إلى طبقها وبدأت تعبث بقطعة تارت بالشوكة دون تركيز. ربما كانت نصيحة جيدة، لكنها لم تستطع أن تجد طريقة لتطبيقها. الضغط كان كبيرًا، والمخاطر كثيرة جدًا بالنسبة لها. 

"أجد صعوبة في الاستمتاع بهذا الوقت."


نظرت إليها أورليا بقلق وقالت: "مثل الصيف تماما ، هذه اللحظة القصيرة قبل أن تعتلي العرش سريعة الزوال. فاعتبريها وقتًا لتكوني يقظة لما تريدينه، ولما ترغبين أن تصبحي عليه."


*لطالما رغبت في أشياء لا ينبغي لي أن أرغب بها* — هكذا قال ميلوري ذات مرة.


لكن الآن، لم تكن متأكدة. حين تسمح لنفسها بالحلم، كانت تفكر في "مملكة الجنيات" موحدة وآمنة. تفكر في دفء الشتاء، حيث الاحترام لا يعني البُعد. تفكر في ميلوري.


تلك اللحظات من الحرية والسعادة كانت تشبه القوة. ماذا لو تخلّت عن القيود؟ لو وثقت بحدسها؟ لو فعلت ما تشعر أنه صحيح، لا ما تم تلقينها إياه؟ كان الإيمان يشبه ضوء الشمس، يضيء داخلها. ربما قلبها لم يخذلها يومًا.


                        --------------

في تلك الليلة، عادت كلاريون إلى الحدود. جلست  على الجسر بين الربيع والشتاء، وشعرت بلمسة خفيفة من البرد على بشرتها، ونسيم ثلجي يلتف حول معصمها.

 بدا وكأنه يدعوها للاقتراب، ليأخذها نحو العشب الشاحب المتجمد والمغطى بالصقيع. 

لم تكن لتفلت من سحر ذلك المكان بعد أن اختبرته بنفسها: مكتبات منحوتة من الجليد، جبال تُعبر بالمزالج، وجنيات تصادق الذئاب.


كم هو مؤسف أن أي جنية دافئة لم تعش ما عاشته هي.


ارتجفت كلاريون حين شعرت بوجود شخص آخر. وعندما رفعت نظرها، رأت ميلوري يهبط من طيرانه. من الواضح أن جزءًا منها كان متصلًا به، أو ربما يبحث عنه. 

هبط برشاقة بجانبها، وكان وهج جناحيه يضيء الثلج كضوء القمر. هذه المرة، لم توبّخ قلبها على ردّ فعله.


*ما الضرر في السماح بذلك؟*


قال : "لقد عدت !"

 شعرت بالراحة من تعبير وجهه، ومن دهشته السعيدة، ومن معرفتها أنه كان ينتظر هذا اللقاء مثلها تمامًا.


قالت كلاريون: "وعدتك أنني سأكون هنا الليلة. ثم إن يارو قالت إنك تستطيع أن تعلمني التزلج. يجب أن أعود من أجل ذلك."


"قالت ذلك؟"

 ظهرت المفاجأة على وجهه، قبل أن يستعيد هدوءه. 

"أظن أنها لم ترَكِ تسقطين من المزلجة. من يدري ما الذي سيحدث عندما نقفكِ على الجليد؟"


نظرت إليه كلاريون بنظرة غاضبة، لكنها لم تستطع أن تخفي ابتسامتها أمام بريق عينيه. بهدوء، جلس بجانبها على الأرض. كانا قريبين جدًا، حتى أن ركبتيهما كادتا أن تتلامسا. مجرد التفكير في ذلك جعل بشرتها ترتجف وكأنها تلامس الكهرباء.

 *سخيف*، وبّخت نفسها. لقد كانا أقرب من ذلك بكثير في الليلة الماضية. ولكن اقترابهما في الليلة الماضية كان بدافع الضرورة، لكن هذه اللحظة بدت أكثر هشاشة، أكثر انكشافًا. خاصة حين نظر إليها بذلك الشكل. لم تستطع كلاريون أن تحدد ما الذي رأته في عينيه بالضبط، لكنها شعرت برغبة جارفة ومؤلمة تتصاعد في داخلها.


قال بصوت منخفض، يحمل شيئًا من الشجن: "سأعلمكِ يومًا ما."


استغرقت لحظة لتتذكر ما كانا يتحدثان عنه، ثم ردّت، بأنفاس متقطعة: "سأحاسبك على ذلك."


مرر ميلوري أصابعه على طرف كمّه وقال: "كيف حال ذراعك؟"


رفعت كلاريون القماش حتى مرفقها، وأدارت ذراعها لتريه. كانت قد نزعت الضماد في وقت سابق، وفوجئت بأن الجرح بدا وكأنه مضى عليه أيام، لا تورّم، لا تعقيدات.

 ابتسمت له بمزاح خفيف: "عليك أن تثق بمعالجيك أكثر."


تنهد وقال: "أنا أثق بهم، لكنني أدرك كم كنا محظوظين. لقد كانت إصابة بسيطة فقط. لو كان الأمر أسوأ..."


نادته همسًا في قلبها: *ميلوري.*  

مدّت يدها عبر الحدود، ووضعتها على ساعده. تجمّد في مكانه، ثم رفع عينيه نحوها. كان وهجها الذهبي يغمر وجهه، ويضيء عينيه الشاحبتين. للحظة.


قالت بصوت خافت: "أرجوك، لا تلم نفسك. أنا من اختارت العبور. كنت أعلم بالمخاطر. وحتى لو أصبتُ إصابة خطيرة، فسيكون ذلك خطئي، لا خطأك." ، تمامًا كما شعرت أن ما حدث لراون كان خطأها. 


قال ميلوري محتجًا: "هذا ليس صحيحًا."


ردّت، وصوتها يتهدج: "بل هو كذلك. لو كنتُ أتحكم بسحري بشكل أفضل، لما كنا في هذا الوضع الحرج. لم يكن أحد ليُحبس في كابوس، ولم تكن ممالكنا لتقلق. لكنني لا أتحكم، ولهذا لا أستطيع إنقاذ أحد."  

لم تكن تعلم أن هذه المشاعر كانت قريبة من السطح بهذا الشكل. لم تستطع أن تمنع نفسها من البوح بها، والآن وقد فتحت الباب، لم تستطع أن تغلقه.  

"أي نوع من الملكات سأكون؟ أنا الجنية الوحيدة في مملكة الجنيات التي لا تستطيع فعل الشيء الوحيد الذي وُلدت من أجله."


وضع ميلوري يده فوق يدها، فاختفى البرد المعتاد من الهواء. 

لم تكن قد أدركت أنها بدأت تغرس أصابعها في يده، ولم تكن قد لاحظت كم كانت قريبة من البكاء.

 بهدوء، خفف ميلوري  قبضته ، وبعد لحظة، سحب يده، وسحبت كلاريون كذلك يدها إلى دفء الربيع. غياب اللمسة بدا وكأنه فقدان أكبر مما ينبغي.


قال ميلوري: "لا ينبغي أن تلومي نفسك على أمور خارجة عن إرادتك."


ضحكت كلاريون، وهي تحبس دموع كادت أن تنهمر.

 مررت أطراف أصابعها تحت عينيها وقالت: "لا يمكنك أن تعيد لي نصيحتي، إلا إذا أخذتها لنفسك أولًا."


ابتسم ابتسامة بالكاد ظهرت وقال: "في هذه الحالة، أستعيدها. أنتِ لست الملكة عديمة الموهبة كما تظنين. يمكنك استخدام سحرك، حتى لو لم يكن بالمستوى الذي تطمحين إليه. لقد رأيت ذلك بنفسي."


قالت معترضة: "نادراً ما يحدث ذلك. وحتى حين أتمكن من استخدامه، بالكاد أكون واعية لما أفعل. هل يُحتسب ذلك حقًا؟"


"ابدئي من هناك إذًا."


ضحكت كلاريون فجأة، وقد باغتها الأمر: "هل ستعطيني درسًا في السحر الآن؟"


قال وهو يقترب منها، يضع ركبته قرب صدره: "اسمعيني... ماذا تشعرين الآن؟"


استندت على راحة يدها وتنهدت وهي ترفع راسها نحو السماء ، ثم ردّت : "الخوف.

 في هجوم الكابوس في الخريف، شعرت به فجأة."


اقترب ميلوري أكثر، وقد بدا مهتمًا: "وماذا يحدث عندما يختفي؟"


*إلى أين كنت أريد أن أصل بهذا؟*


قالت: "أتذكر نفسي. أتذكر كيف سيطرت على خوفي. كيف ضبطت إرادتي وشكلتها. أعتقد أن استدعاء القوة أمر سهل... لكن تحويلها إلى شيء مفيد؟"  

سكتت حين رأت تعبير وجهه، مزيجًا من الدهشة والقلق. 

قالت : "لماذا تنظر إليّ هكذا؟"


تردد قليلًا ثم قال: "لا شيء... فقط يبدو لي أن محاولتك لكبت الخوف تعيقك. في الواقع، يبدو أنك تصلين إلى قوتك بسهولة أكبر عندما تحاولين حماية الآخرين، عندما تخافين عليهم لكنك تملكين الشجاعة لتتصرفي."


نظر إليها نظرة عميقة، وكأنه يقول: *هذا هو النوع من الملكات الذي ستكونينه.*  

أشاحت كلاريون بوجهها. كان يملك قدرة مزعجة على تحدي أسوأ أفكارها عن نفسها. يجعلها تبدو وكأنها نبيلة.


قالت بتردد: "ربما... لكن هذا ما نصحتني به إلفينا. قالت إن الوصول إلى القوة أسهل عندما يكون الذهن صافياً."


 مد ميلوري  يده أمامه، و بدأ الهواء يتلألأ، ثم ظهرت بلورات جليدية صغيرة ,  تجمعت لتشكل كرة من الجليد في راحة يده.  

قال: "لم يعلمني أحد كيف أفعل هذا. وهذا حال معظم جنّيات الشتاء. لا أقول هذا لأؤكد مخاوفك، لكن... سامحيني إن تجاوزت حدودي، ربما النصيحة التي تلقيتها أضرتك أكثر مما نفعتك.  

أنتِ تعرفين كيف تستخدمين قوتك. كل الجنيات يعرفن ذلك بالفطرة. ماذا لو تخلّيتِ عن ما قيل لك؟"


شعرت بمقاومة عنيدة تنهض داخلها. إلفينا لم تكن لتخدعها، على الأقل ليس عن قصد. طوال حياتها، كانت إلفينا تمثل صورة الملكة المثالية، النموذج الذي يجب أن تحتذي به. وبالطبع، شمل ذلك طريقة تعاملها مع قوتها.  

لكن كلام ميلوري بدا منطقيًا بشكل مؤلم.  

في كل مرة حاولت فيها كلاريون السيطرة على غبارها التي انتزعتها من نور النجوم، كانت جدران عقلها تنهار.  

ما أدهشها هو أن شخصًا عرفها منذ وقت قصير استطاع أن يصل إلى أعماقها بهذه السرعة.


*فكّري في الأمر كفرصة لتستيقظي على ما تريدينه، وعلى ما تريدين أن تصبحيه.*


قالت بصوت خافت: "لست متأكدة كيف."


ردّ بثقة: "سيأتيكِ الجواب. لقد ولدتِ من أجل هذا."


كلماته جعلت ذلك الصوت المزعج في داخلها، ذلك الشك الذي لاحقها لأيام، يصمت أخيرًا.  

قالت بابتسامة صغيرة: "كلام مشجّع... لكنه ليس عمليًا تمامًا."


فكر ميلوري للحظة، ثم قال: "قلتِ إن الغبار يأتيكِ بسهولة عندما تشعرين بالخوف. ربما ليس الخوف هو المفتاح، بل أن تكوني غارقة تمامًا في اللحظة، سواء كانت إيجابية أو سلبية."


قالت وهي ترفع حاجبًا: "هل تقترح أن أتوقف عن التفكير؟"


ابتسم ميلوري تلك الابتسامة الماكرة الصغيرة من جديد، ثم حرّك أصابعه بخفة، فانفجرت كرة الجليد في يده إلى طبقة رقيقة من الصقيع، تألقت على بشرته قبل أن يبعثرها النسيم.  

قال بهدوء: "شيء من هذا القبيل."


لم تكن نظرية سيئة.  

سألته كلاريون: "هل تريدني أن أجرب الآن؟"


أجاب: "إن أردتِ."


*ولِمَ لا؟ لم يكن هناك مكان آخر أرغب في أن أكون فيه.*


أغمضت كلاريون عينيها وحاولت... لا، لم تستطع أن "تحاول"، فذلك يتعارض مع جوهر التمرين، الذي يقوم على أن تكون حاضرة فقط، دون جهد.  

لكن من الصعب أن تكون حاضرة تمامًا حين تشعر بوجود ميلوري بجانبها.  

الوعي الذاتي يجعل الأمر مستحيلًا.  

فتحت عينيها، مستعدة لتخبره أنها لا تستطيع، لكن رؤيته أسكتت كل اعتراضاتها.


كان ينظر إليها وكأنها شيء يستحق التأمل.  

تغيرت ملامحه، أصبحت ناعمة، مكشوفة، حين لاحظ أنها تحدّق فيه، وكأنه لم يتوقع أن تُمسك به، لكنها لم تهتم.  

لم يكن هناك شك في نظرة الشوق الواضحة في عينيه.  

أدركت أنه نظر إليها بهذه الطريقة من قبل، في أول مرة عبرة فيها إلى الشتاء.  

تساءلت كم من الوقت كان يرغب في تقبيلها، وشعرت بسذاجة لأنها لم تلاحظ ذلك من قبل.


ومع ذلك، جلس ميلوري وكأنه متجمّد.


تساقط الثلج على بُعد إنش واحد منها، في دوامة براقة وجذابة.  

كانت قريبة من الحدود، قريبة منه، حتى أن أنفاسها تحولت إلى بخار أبيض في الهواء.  

اقتربت كلاريون أكثر، حتى غطى البرد كتفها، ثم لامس أذنها.  

كان شعورًا غريبًا: نصفها آمن في دفء الفصول، والنصف الآخر غارق في البرد.  

وبهدوء، وباحترام، مرّر ميلوري أطراف أصابعه على خط فكّها، ثم مال بوجهه نحوها.  

المسافة بينهما كانت سؤالًا، أجاب عليه بسرعة.  

وضع يده على جانب عنقها، ورغم أن لمسته كانت باردة، إلا أن دفئًا غمرها من الداخل.


مالت كلاريون بكاملها نحو الشتاء، وقبّلته.


 تصاعد شيء داخلها كنبع ماء، حتى فاض تمامًا.  

غبارها النجمي !

شعرت به يهتز في عظامها، ويتخلل أطراف أصابعها، متحمسًا ليُستخدم.  

هذه المرة، لم يكن شيئًا عليها أن تسيطر عليه.  

كان نهرًا، بئرًا عميقًا لا ينضب.  

تدفّق حتى أضاء جسدها بالكامل بضوء ذهبي ناعم.


تراجع ميلوري قليلًا ، بنفسٍ مرتجف.  

و فتحت كلاريون عينياها على اتساعهما، انعكس لمعانها في رماد عيني ميلوري ، وتألقت أجنحتها ، بدات تشع اكثر من السابق .  

توهجت ذرات غبار الجنيات على رموشها، وعلى أكمام فستانها، وتطايرت في الهواء ، ثم تجمعت فوق رأسها كأنها تساقط ثلجي، ترسم العالم كله بلون الذهب.


 هل فعلتها؟ ، هل استخدمت كلاريون قدرتها للتو ؟ 


 تحدث ميلوري ، و كان صوته منخفضًا ومليئًا بالدهشة:  

"أنتِ مذهلة."


وربما، للمرة الأولى... كان يؤمن بذلك فعلًا.


تعليقات