رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل السادس | مترجم

 في اليوم التالي، ندمت كلاريون على سهرها حتى وقت متأخر ، فقد اصبحت منهكة بعد يوم كامل قضته في العمل مع وزير الخريف، حتى ان يدها اصبحت ترتجف من التعب وهي تلف شالها الحريري.


راون، الذي كان قد استأذن قبل دقائق، عاد إليها وبيده كوب من شاي . 


قدمه لها بنظرة تفهم عميقة وقال: "ستعتادين على الأيام الطويلة مع الوقت."


 قالت كلاريون، وقد اختلط في صوتها الحرج بالامتنان لكونه لاحظ ذلك : "شكرًا لك. " تابعت :" آمل ألا أكون قد أطلت الأمور أكثر من اللازم"، .  


ابتسم لها وقال: "أبدًا، لم يكن كذلك."


أخذت كلاريون رشفة من شايها. رغم أنها لم تكن من عشاق مرارة الشاي ، إلا أنه جعلها تشعر بالانتعاش بطريقة ما. 


كان راون قد بدأ لتوه التحضيرات لاستقبال فصل الخريف، وعلى الرغم من شرودها، كانت كلاريون مصممة على حفظ كل تفصيلة عن ظهر قلب. 


فهذا الانتقال الموسمي هول اول حدث تشرف عليه بصفتها الملكة، وبعد خيبة الأمل التي تسببت بها لإلفينا الليلة الماضية، لا مجال لوقوع أي خطأ.


  هذه آخر فرصها لإثبات ذاتها، خاصة بعد أن أقنعت نفسها بالابتعاد عن حارس غابة الشتاء.


 على رغم أنها بقيت مستيقظة لفترة أطول مما تود الاعتراف به، تستعيد كلماته واحدة تلو الأخرى.


لكن الآن، جمعت كلاريون قوتها الهائلة وصبتها في دفن تلك الأفكار بعيدًا، بعيدًا عن عقلها. 


ومع ذلك، كانت تعاني من أرتيميس التي تتربص على بعد خطوات فقط، تنظر إلى كلاريون وكأنها ستتلاشى لو صرفت عنها نظرها للحظة واحدة.


افترضت كلاريون أنها تستحق ذلك الانتباه المتجدد، مع شعورها بالذنب الذي لا يفارقها. لانها كانت سببًا في وقوع أرتيميس في مشكلة بعد اختفائها المفاجئ.


نظرت كلاريون الى الجنيات الخريفيات يعملن في الساحة بالأسفل ، فمع أمر إلفينا الصريح بالعودة إلى الحياة الطبيعية، بدا مستحيلًا أن يكون هناك خطر من الأساس. 


ومع ذلك، لم تستطع كلاريون طرد الشكوك التي تراودها وهي تنتظر الى طلال الليل تسلل الى الاشجار .


فجاءة ظهرت جنيات موهبة الاوراق كن يحملن المظلة الخضراء عملاقة ، تتقطر منها غبار يلون الأرض بلون ذهبيّ ناعم. 


تجمّعت حولهم عدد من الجنيات ، ينظرون اليهن يلطخن ورقة الاشجار البلوط بصبغة من صنعهن ، يتبادلن الإيماءات وكلمات الإعجاب بأسلوبها. 


كانت تتامل كلاريون ذلك المنظر المدهش حتى مرّت جنّية طيّارة بسرعة جنونية بجوار كلاريون، تسببت ريحها العاتية في تطاير شعرها، وانحراف سرب من الفراشات عن مساره. 


أطلق موهوب الحيوانات الذي كان يقودها أنينًا احتجاجيًا.


"انتبه لخطواتك !" صاح موهوب الحيوانات خلفها، وهو يهز عصاه. "نحن نعمل هنا اذا كنت لا ترين !"


صرخت الطيّارة دون أن تتوقف. :"آسفة!" 


لم تستطع كلاريون إلا أن تبتسم. فما أجمل أن ترى رعاياها يتجادلون ويضحكون ويعرضون مواهبهم. 


أما راون، فكان ثابتًا كعادته، كما لو أن هذا الضجيج أمر مألوف لا يستحق التعليق. كان يقف بيدٍ داخل جيب عباءته، ويمسك بالأخرى دفتر ممتلئ بخربشاته. 


أخبرها أنه قائمة مهام، لكن كلاريون لم تستطع أن تُطلق على هذا الفوضى اسم "قائمة". كانت البنود تُكتب وتُلصق بعشوائية .كأن عقله يقفز إلى الأمام بخطوات لا تستطيع اللحاق بها.


قال : "في هذه المرحلة نجرّب أفكارًا جديدة ونتأكد من توفر كل المستلزمات. عادةً ما تعتمد عليّ إلفينا في التفاصيل الصغيرة، لكن قبل أيام من انطلاقنا إلى اليابسة، تأتي لتراجع تجهيزاتنا."


كلاريون : "وكيف تعرف أن ما قمتَ به مقبول؟" 


رد وقد أضاءت عيناه. : "بحدسها."


وكان هذا النوع من الإجابات الغامضة هو ما يربك كلاريون. لا، لا يمكنها الاعتماد على شيء هش ومتقلب كالحدس. فخلال الأيام الأخيرة، لم يجلب لها سوى المتاعب. ربما كان يسخر منها. لا شك أن إلفينا تمتلك نظامًا مفصلًا تقيّم من خلاله عمله. أدرجت كلاريون احتمالية انه يضايقها لتفسير كلامه في رأسها.


وبعد أن شعر بتوترها، ضحك راون وقال: "وقليل من الثقة بالوزير، بالطبع. لقد فعلتُ هذا مئات المرات يا كلاريون. أنتِ بين أيدٍ أمينة، أو على الأقل خبيرة."


لم يكن تذكيرها بالخبرة يثير فيها أي طمأنينة. بل كان مجرد تذكير مرير بمدى الطريق الذي عليها أن تقطعه، وأنها لا تملك ترف القرون كي تصبح جديرة بالمهمة.


سالته : "هل راودك القلق يومًا؟"


ارتخت ملامح وجهه بتعجب لطيف. "ماذا؟"


قالت بصوت خافت : "لا أعلم"، لم تستطع التعبير عمّا كانت ترغب في قوله حقًا. فقد كانت تريد ان تسألهج هل شككت بنفسك يومًا؟ 


بدلًا من ذلك، مدّت يدها نحو الساحة بالأسفل، حيث كانت مجموعة من أصحاب موهبة الأوراق يطوون ويفردون أوراقًا جافة في أنماط معقدة، في محاولة للوصول إلى القوام المثالي . عملية معقدة جدًا، كما قال لها راون ذات مرة. "كل هذا. الأمر كله بين يديك. وكل العيون عليك."


كانت خصلاتها المنسدلة تتمايل مع الريح، وظلال رموشها الطويلة تمتد فوق عظام وجهها. 


وبينما كان يحدّق فيها الوزير بعبوس، لم تستطع كلاريون سوى أن ترى في عينيه سكون غابة عتيقة تعيش بداخله. 


رد اخيرا : "أنا واثق أنه راودني يومًا ما. لكن ليس من طبعي أن أقلق. فصل الخريف يعني التأمل والبطء. ومع تقدّم العمر، تعلّمت ألا أقلق بشأن الأشياء قبل حدوثها."


ـ هذا هو السر إذًا؟ أن تختار ألا تهتم؟ كان ذلك المفهوم غريبًا عليها، خاصةً وأن أقرب صديقاتها، بيترا، كانت تهتم بكل احتمال ممكن.


قال راون : "لديك موهبة في الحكم ، أعلم أنه يبدو مرهقًا حين تفكرين فيه من بعيد، لكن حين تدخلين في تفاصيله، ستعرفين كيف تتصرفين."


شدّت كلاريون شالها حول كتفيها. "بالطبع."


تلاشت ابتسامتها بينما كانت تتأمل تعابير وجهه.


 "ما الذي أثار كل هذا؟ هل سبّبت لك الملكة المتاعب؟"


قالت بأدب شديد : "بيننا بعض الخلافات مؤخرًا"، .


وضع ذقنه في تجويف إصبعيه كما لو كان يتأمل شيئًا عميقًا وقال : "هكذا إذًا؟" تابع : "منذ أن كنتِ جديدة، تحاولين أن تصبحي نسخة منها تمامًا. نفس الهيئة. نفس الصوت، أنتِ تعرفين ما أعنيه. لا أظن أنها انزعجت من ذلك."


أرادت كلاريون أن تأخذها كإطراء، لكن نبرة كلامه أوحت بأنه لا يقصد ذلك. لم يكن الأمر يشبه علاقة أمٍّ بابنتها، بل أشبه بطفل ودمية. وعندما رأت الشفقة واضحة على وجهه - لا، بل كان ذلك شفقة حقيقية - انكمشت داخل نفسها.


قالت : "إنها فقط تريد أن تهيئني للدور."


"بالطبع، هذا ما أريده أنا أيضًا." 


تراجع راون سريعًا وأضاف: "وأريد فقط أن أقول إنك تمثلين شرفًا لها. لطالما كنتِ... متمردة؟ مع ذلك، ما نوع الخلافات التي قد تحدث بينكما؟"


"تقول إنني اخلط بين أولوياتي. إن من الطبيعي لي أن أستجيب لما أراه أمامي. شجار. او مشاعر أحدهم." 


 اللحظات . ثم أخذت تعبث بخيط خفي في شالها. "كل ذلك يشتتني عن الصورة الأكبر."


ـ آه. ظهرت على وجهه تعابير يصعب قراءتها، كمن يحاول ألا يقول ما يدور في عقله فعلًا. 


"ربما كانت تقصد أنه لا يمكنك أن تلومي نفسك كل مرة تسوء فيها الأمور. مهما حاولتِ، لن تتمكني من حلّ كل مشاكل جوف الجنيات بمفردك."


ـ على ما يبدو، لا.


ربّت على كتفها بحب، لدرجة كادت أن تفقد توازنها. "لديكِ حدس أفضل مما تعتقدين."


لكنها لم تكن كذلك. كانت تتمنى لو عرفت. لو استطاعت أن ترى هشاشتها تحت ذلك القناع. حين يتعلق الأمر بما هو جوهري—مثل اتخاذ القرار، ضبط النفس، القوة المجردة—لن تصل أبدًا إلى مقام إلفينا. 


منحت راون ابتسامة مرتجفة، لا تحمل سوى امتنان هش. وقالت : "أقدر ذلك. حقًا، أقدره."


تحولت ملامحه إلى الجدية. "كلاريون... أنت أدرى من أن—"


فجاءة اهتز الهواء من حولهم، وساد صمت قاتل، غير طبيعي. قشعريرة اجتاحت ذراعيه، والرعب قبض على عموده الفقري كما لو أنه حبيس بين فكيّ وحش.


 كان أشبه باللحظة التي تزحف فيها الكهرباء على جلدك قبل أن يضربك البرق، لكن السماء، رغم ظلامها المطبق، كانت صافية.


قطّب راون حاجبيه: "هل شعرتِ به؟"


قالت وهي بالكاد تلتقط أنفاسها. : "اجل شعرت "، 


ظهرت أرتيميس إلى جانبها فورًا، و أصابعها تحوم حول جعبة الأسهم المثبتة عند وركها.


 دسّ راون دفتره في جيبه بينما تتلاعب الريح بحاشية عباءته. 


اما في الساحة بالأسفل، تجمّد الجميع مكانهم. لا ظل لصقر غطّى الأرض، ولا نداء ثعلب شقّ السكون. ولكن هناك، عند خط الأشجار...


جذب شيء انتباه كلاريون. ضباب أسود—هل سبق أن كان بهذا الكثافة؟—يتسرب إلى الساحة، وتتجمع على الأرض. بدأت بالغليان والتلوي، كما لو أنها تكافح لتشكيل ذاتها. تصاعدت همسات القلق من الجنّيات في الأسفل.


سألت كلاريون : "ما هذا؟" .


قالت أرتيميس بقلق : "لا أعلم"، أخرجت سهمًا وثبته على قوسها. سلاح رهيب ضد أعدائه الطبيعيين، بلا شك، لكن شيئًا في داخل كلاريون أخبرها بأنه سيكون عديم الجدوى هذه المرة.


خيوط من الظلام بدأت تتصاعد، تلتف وتنسج حول نفسها.


 لمحت كلاريون بريقًا لامعًا لقشور سوداء، ووميضًا لعيون مضيئة وسط ذلك المنظر . وبعد لحظة، أدركت أنه أفعى، لكنها لم تكن كأي أفعى رآتها من قبل. كانت متماسكة، حقيقية، ومع ذلك بدا جسدها وكأنه يتكون كليًا من الدخان وتخلخه نقاط بنفسجية غريبة.


كان شكلها يتبدل مع كل رمشة عين، وكأن ذاكرت تعجز عن تذكر تفاصيلها. ظهرت لها أطراف، ثم جناح، لتذوب من جديد في دخانها. بالكاد استطاعت تثبيت صورتها في ذهنها. ظلها الطويل سقط كسيف على الجنيات الخريفيات.


"وحش."


همست بها كلاريون . وهذا وحده كان كافيًا كي تنطلق أرتيميس. أطلقت سهمها، فاندفع في الهواء ودخل فم الوحش. رغم أن السهم شقّ مؤخرة رأسه، لم يرتجف الوحش على الإطلاق. وشحب وجه أرتيميس تمامًا.


صرخ راون : "الجميع، اركضوا!" .


وهنا بدأت الصرخات.


حين طارت الجنّيات، بصق الوحش سُمّه. كان قاتمًا تمامًا، و يلمع . كل جنّية يضربها كانت تسقط من السماء وترتطم بالأرض بصوت مريع. لم يكن هناك صراخ، فقط أجساد ساكنة، وكأنهن غفينَ منتصف الطيران. راون كان يراقب، عاجزًا تماماً.


شدّت كلاريون كوعه. : "علينا أن نفعل شيئًا."


وكان ذلك كافيًا ليوقظه من ذهوله. اقترب منها، فكّه مشدود، وشفته معقودة بخط رفيع من الغضب. : "لا. أنا من سيفعل شيئًا. أما أنت، فعليك العودة إلى القصر حالًا. هذا المكان خطر جدًا عليك."


كم مرة ستُجبر على البقاء خلف الستار؟ مُستبعَدة من حماية شعبها؟


صرخت : " ما نفع أن اكون ملكة، إن كانت ممنوعة من فعل أكثر الأمور بداهة؟ "


زمجرت أرتيميس : "أفضل من أن تكوني جثة"، .


ترددت كلاريون. ففي الحقيقة أن موهبة الحُكم لا تظهر سوى مرة كل بضع مئات من السنين، كانت الملكة تُعدّ جوهرة نادرة. لم يكن أحد يعرف ماذا يحدث لو ماتت الملكة قبل أوانها. هل سترسل واحدة جديدة؟ أم سيُترك أمر جوف الجنيات لحكمة وزرائها؟


عبثت أرتيميس في جيبها وأخرجت شظية من نبتة العشب الأزرق. وضعتها على شفتيها ونفخت. انطلق صوت حاد مزّق سكون الغابة—كان إنذار الكشافة.


 وبعد لحظات، سمعت كلاريون صوتًا مشابهًا يتردد في البعيد، التقطه أحد الكشافة.


قالت أرتيميس. :"سيصل الكشافة في أي لحظة ، تعالي معي. حياتك لا تستحقين أن تُهدَري هنا."


قال راون، هذه المرة بنبرة أكثر لطفًا : "أنتِ تعلمين أنها على حق ، اذهبي."


اختنقت كلمات كلاريون وهي تهمس : "حسنًا"، تابعت بالم : . "فقط... ساعدوهم."


ـ "سأحميها، سيدي." بدت كلمات أرتيميس رسمية كعادتها، لكن كلاريون لم تغفل عن ذلك البريق الوامض في عينيها.


ندم... وربما شوق، فكّر راون.


أومأ برأسه، ثم وجّه انتباهه إلى الساحة في الأسفل. بعض الطيّارين الشجعان بقوا خلف الجميع، يحاولون إبعاد الوحش عن أصدقائهم، يتفادونه بخفة، يرمون عليه كل ما يقع بين أيديهم. وهذه المرة، لم يتردد راون. انطلق من التلة، جناحاه ممتدان.


"شُتّتوا انتباهه!" صرخ. "سأنقل المصابين إلى الأمان."


كانت عينا كلاريون معلّقتين بأولئك الطيّارين السريعين. يشقّون الهواء بخطوط سريعة وضربات من غبار الجنيات. ومع انشغال الوحش بهم، هبط راون وحمل إحدى الجنيات المصابات بين ذراعيه. ومع بدئه السير نحو الأشجار، اقترب الوحش منه، ناباه مكشوفان، يتقطّران سُمًّا.


لا. رأت كلاريون اللحظة التي أدرك فيها راون ما سيحدث.


امتدت كل ثانية إلى الأبد. وبشكل غريزي، مدت كلاريون يدها للأمام، وكأنها قادرة على الوصول إليه من هذا البعد، وكأنها تستطيع فعل شيء. لكن الخوف أضاء شرارة في أعماقها كالنار البرية. كانت تعرف هذا الشعور.


شهقت حين ومض نور ذهبي من راحة يدها، ثم اندفعت نحو الوحش. لم يكن تصويبها موفقًا، لكن الأفعى ارتدت وكأن النار لسعتها.


لبرهة، كل ما استطاعت فعله هو التحديق في يدها بدهشة وانبهار. كان الضوء لا يزال يلمع كغبار نجوم في راحتها. كان يُغلفها بنوره الذهبي، وأضاء عيني أرتيميس الواسعتين.


 كيف...؟ لا. في تلك اللحظة، لم يهم كيف حدث ذلك، بل فقط أنه بإمكانها تكراره. الكشافة كانوا في طريقهم، لكنهم لن يصلوا في الوقت المناسب. والأسهم لم تُجدِ نفعًا ضد ذلك الوحش.


لكن ربما... قوتها ستفعل.


كانت قد وعدت بأن تكون حذرة. بأن تكون آمنة. لكن إن كان الثمن إنقاذ الأرواح...


"سامحيني، يا أرتيميس."


وحين أقلعت كلاريون في الجو، لم تسمع سوى نداء باهت خلفها: "جلالتك! انتظري!"


بحلول الوقت الذي انزلق فيه راون، متخذًا موقعه بين الأفعى والمصاب، كان قد استعاد وعيه. حيثما لامستها قوة كلاريون، بدأ جلد الوحش—إن جاز تسميته جلدًا—يتساقط على قطرات من سائل أسود، كأنه يذوب في صمت.




من قرب، بدا الوحش أكثر رعبًا مما كان عليه. اقترابها منه ملأ رأسها بهسيس من الخوف.


 وعندما وجّه إليها الوحش نظرة كاملة. فرغ ذهنها تمامًا. كل عضلة في جسدها تشنّجت بفعل الخوف الغريزي.


 أجبرت نفسها على رفع يديها، لكنهما ارتعشتا. لم تشعر بقوتها يومًا ، لكن هذه اللحظة بذات كانت ابعد ماتكون .


سيطري ، فكّري ، وسط صراخ الذعر الذي غمر أفكارها. حاولت التركيز.


كان الضوء يتلألأ ضعيفًا في راحة يدها. كانت الأفعى تستعد للهجوم، فكّاها مفتوحان. وفي تلك اللحظة، تراخت قبضتها على ضوئها. وفكرت في أمرين في آن واحد: سأموت. والأقوى منهما: إذا أردت إيذاءهم، عليك أن تمر بي أولًا.


كان هذا الثاني هو ما ملأها، بغرابة، بهدوء عميق. انساب نور ذهبي منها، أكثر سطوعًا من الشمس، اخترق الضباب المنخفض في الساحة.


ثم شيءٌ أطاح بكلاريون أرضًا.


انهارت، تاركتا سحابة من الغبار في إثرها. استقر عليها ثقلٌ هائل وغمر عينها بقعة من الطلام .


وحين اختفت البقع من رؤيتها، وجدت كلاريون نفسها تحدّق في أرتيميس،كان وجهها مغبر، مليء بالذعر. لم تستطع سماع شيء سوى طنين في أذنيها وصوت أنفاسها اللاهثة..


لكن حين تجرأت ورفعت نفسها ، لم ترَ سوى خيط من الظلام، يزحف مذعورًا إلى ظل الغابة. و سُمّ يملى الأرض حيث كانت كلاريون واقفة قبل لحظات.


لقد أنقذتها أرتيميس.


لكن ارتياحها لم يدم طويلًا. وقعت عيناها على راون، الممدّد بلا حراك بين أوراق الخريف المتناثرة. كانت تشبه الدم أكثر مما ينبغي.


"يا معالي الوزير!"


نهضت وهي تهرع نحوه. لم يتحرك، لكن صدره كان يعلو ويهبط. انه حيّ ! 


كادت كلاريون تبكي من الراحة. جثت إلى جانبه وهزّته. تقلّصت ملامحه—ليس بفعل الألم بالضبط، بل... خوف؟ كانت عيناه ترتجفان تحت جفنيه المغلقين. بدا وكأنه يعيش كابوسًا.


هزّته مرة أخرى، بقلق أكبر. "استيقظ."


لكن لم يردّ.


ازدادت أنفاسها ثقلاً. ماذا يحدث؟ نهضت ببطء، وأخذت تتفقد الدمار حولها. جميع تحضيرات الجنيات الدقيقة قد تلاشت. جنّيات فاقدات للوعي متناثرات في الساحة، بعضهن يجهشن ببكاء مكتوم في نومهن. سيطر عليها الذعر. اقتربت من جنّية تقف بجوار راون، وهزّتها. "استيقظي."


لا شيء.


انتقلت إلى التالية، فالتالي، ثم التالي... لا أحد تحرّك. لا شيء، لا شيء، لا شيء.


"استيقظوا"، همست لنفسها. "رجاءً، رجاءً... استيقظوا."


وفي اللحظة التي حاولت فيها إيقاظ السادسة، استقرت يد ثقيلة على كتفها.


"جلالتكِ"، قالت أرتيميس بهدوء. "توقفي."


وأخيرًا، سقطت كلاريون على ركبتيها، ودفنت وجهها بين يديها.


 تنفّست بعمق حتى تلاشت الدموع عن عينيها. لم يسبق لها أن شعرت بهذا القدر من الهوان، بهذا البُعد عن كونها ملكة. لم يسبق لها أن احت

قرت ذاتها بهذا الشكل.


ولأول مرة، فهمت كلاريون تمامًا لماذا لم تثق بها إلفينا. رأت قاع إخفاقاتها الحقيقي. إن لم تتقن قدراتها قبل التتويج، فسيأتي يوم تسقط فيه بيكسي هولو في هاوية الدمار.


وسيكون الأمر بأكمله… خطأها.




---






تعليقات