رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل السادس والعشرن |

 استيقظت كلاريون لتجد غرفتها مغمورة بضوء الشمس بعد الظهيرة. كان الأمر مربكًا أن تنام كل هذا الوقت، لكن جفونها ما زالت مثقلة، وكأنها ستغفو من جديد إن تركتها تنغلق. لم يكن هذا الإرهاق مثل ذلك الإنهاك القاسي الذي كان ينهش صدرها من قبل، لكنه كان يغريها بالاستسلام والعودة للنوم...


لكن ما إن خطر اسم بيترا على بالها حتى انتفض وعيها بالكامل. كان عليها أن تطمئن عليها وعلى الآخرين.


أزاحت الأغطية عنها بسرعة. وعرفت كم كان الجو خانقًا تحتها، حتى إن هواء الغرفة المغلق بدا باردًا على بشرتها.

 على الطاولة بجانب سريرها وُضعت ثلاثة أشياء بانتظارهاو:

وعاء من العصيدة، بارد الآن بعد أن تُرك طويلًا، وكيس صغير من أوراق نباتية فيه حصتها اليومية من غبار الجنيات، ورسالة مختومة بالختم الملكي.


ماذا يمكن أن تريد إلفينا منها؟


التقطت الرسالة، وبحذر مررت إصبعها تحت الختم الشمعي لتفتحه. حتى من دون الختم، كانت ستعرف خط إلفينا المثالي.


 "تعالي إلى العيادة بأسرع ما يمكن. لقد انكسر السحر أخيرًا."



انفلت نفس كلاريون في زفرة مرتجفة. أسابيع من القلق والتوتر انقشعت في لحظة. وادي الجنيات أخيرًا تحررت .

وسترى صديقتها المقرّبة من جديد.


ارتدت أول فستان وقعت عليه يدها، ثم نثرت غبار الجنيات على جناحيها. تنهدت بارتياح، إذ ملأ العطر الحلو أجواء الغرفة. من بعيد، التقطت لمحة من انعكاسها في المرآة: نقاط ذهبية علقت على رموشها وتلألأت في شعرها المنفوش المتشابك من النوم. جفونها منتفخة من البكاء، وأثر طيات الملاءة مطبوع على وجهها بخطوط حمراء رفيعة.

لكن مظهرها لم يهمها أبدًا. لم تستطع الانتظار دقيقة أخرى قبل أن تنطلق.


فتحت كلاريون أبواب شرفتها بقوة. فاستقبلتها شجرة غبار الجنيات بهزّة خفيفة لأغصانها، تهمس أوراقها مع نسمات الريح

. توقفت لحظة لتتنفس المشهد. وضعت يديها على الدرابزين وانحنت لتنظر أسفلها. كان وادي الجنيات ممتدًا أمامها، واسعًا وجميلاً في ضوء الغروب الذهبي.


قريبًا، سيكون هذا كله لهم.

ولعلها لأول مرة، شعرت أنها مستعدة لتحمل هذه المسؤولية.


بروح خفيفة لم تعرفها منذ أسابيع، انطلقت محلّقة. بدا الأمر غريبًا ألا تكون متخفية كالعادة. لا حراس يراقبون السماء. لا قلق يعتصر معدتها بين حماسة وخوف من الانكشاف. ولا تعليق من آرتميس وهي تتجه نحو مملكة الشتاء.


آمل أن تكون قد بدأت بالتعافي هي الأخرى. ستراها قريبًا جدًا.


حلّقت فوق الحقول الصيفية، وابتسمت لرؤية وادي الجنيات وقد عاد إلى طبيعته. كان صدى الضحكات والغناء يصل إليها حتى من هذا الارتفاع. مواهب البستنة ينتشرن في حقول الحُمَّى، يزرعون البذور لتزهر من جديد. ومع عملهن، ملأت رائحة التربة الغنية والأعشاب العطرية الهواء، تحملها أنفاس الريح.


هبطت كلاريون أمام عيادة المعالجين، حيث أفسحت الأزهار الذهبية الطريق لمروج خضراء يانعة. برزت فِطرات كبيرة من الأرض، مظلاتها الواسعة صارت شرفة للعيادة. رفرفت بجناحيها لتقطع المسافة الأخيرة، ثم هبطت على الشرفة. وفورًا، قفز قلبها فرحًا.


"ارتميس !"


كانت ارتميس تجلس على كرسي هزاز، ساقها اليمنى ممدودة أمامها، مثبتة بدعامة من شرائح لحاء رفيعة مشدودة بحبل منسوج من العشب. عصا خشبية تستند إلى كتفها وعنقها. شعرها الداكن كان أشعث أكثر من أي وقت مضى، وعيناها ما زالتا مرهقتين. لكن ما إن سمعت صوت كلاريون حتى ارتخى وجهها بارتياح.


بخفقان أجنحتها، نهضت آرتميس من مقعدها، مستندة على عصاها. لم تقل شيئًا. تقدمت فقط، وصوت طرف عصاها يطرق بانتظام على مظلات الفطر. ثم احتضنت كلاريون بذراع قوية حول عنقها. كان العناق ضاغطًا حتى يكاد يؤلم، لكن كلاريون لم تجرؤ أن تعترض. فغالبًا لن تنال مثل هذا الدفء منها مرة أخرى.


تمتمت آرتميس في شعرها : "لقد فعلتهاِ"، .


"ما كنت لأفعلها بدونك." تراجعت كلاريون قليلًا لتتأملها. "كيف تشعرين؟"


"عدت تقريبًا كما كنت، يا صاحبة السمو."


أجابتها كلاريون بنظرة جادة، نظرة تقول: كوني صادقة. كانت آرتميس متكئة بشدة على عصاها. وبرغم أن الجنيات نادرًا ما يسرن، فإن أي خلل بسيط في توازنهن يجعل التحليق صعبًا. كانت بحاجة إلى أداة مساعدة على الحركة حتى يُزال الجِبيرة على الأقل.


اعترفت آرتميس متضايقة من قولها : "لقد مررت بأيام أفضل ، هل تمانعين إن جلست؟"


"بالطبع لا." ابتسمت كلاريون. "يسعدني ذلك."


ألقت آرتميس نظرة ممتنة قبل أن تجلس بحذر من جديد في الكرسي الهزاز. مدت ساقها بعناية، متجنبة أن تحركها.

قالت بنبرة خفيفة:

"الألم يمكن احتماله، وقريبًا لن يضطروا لإيقافي عن الهرب بعد الآن."


"لا هروب." وبّختها كلاريون. "هذا أمر ملكي، بالمناسبة. عليك أن تشفي أولًا."


"نعم، يا صاحبة السمو." ابتسمت آرتميس قليلًا. "لكن إن سمحتِ باستثناء، فقد وافق المعالجون أن أحضر تتويجك. لا يليق بملكة أن تكون بلا حارسها."


"أوافق طبعًا." عقدت كلاريون حاجبيها. "لكن أظن أنك تستحقين منصبًا آخر. بعد التتويج، يسعدني أن أعيد تعيينك في—"


"مع كامل احترامي." قاطعتها آرتميس. "أنا سعيدة بموقعي. وإن كان الأمر متروكًا لي، أود أن أبقى فيه."


"تريدين أن تبقي حارسة؟" سألت كلاريون بدهشة. "كنت أظن أنك ترغبين في العودة إلى الدوريات."


فسّرت آرتميس دهشتها على أنها اعتراض فأسرعت تضيف : "كنت كذلك ، لكن بالطبع، إن رأيتِ أنني أنسب في مكان آخر..."


أجابت كلاريون : "ليس الأمر كذلك."

كانت مستعدة تمامًا أن تدعها ترحل، لكنها لم تستطع إنكار أنها في أعماقها توقعت هذا القرار. فبعد سنوات طويلة معًا، لم تعد تتخيل نفسها من دون آرتميس.

 "أنا فقط فضولية، ما الذي غيّر رأيك فجأة؟"


أجابت آرتميس بابتسامة حزينة:

"كنت أعتقد أن كوني حارستك هو تكفير عن ذنب، أو حتى عقاب. وأن استعادة هذا المنصب كانت الطريقة الوحيدة ليحدث فارق في وادي الجنيات. لكن في الأيام الأخيرة، بدأت أشك أن نواياي كانت نقية حقًا. منذ إعادة تعييني، شعرت وكأن عليّ أن أثبت شيئًا."


قالت كلاريون بلطف : "ليس عليك إثبات أي شيء، يا آرتميس ، لطالما اعتبرتك من أنبل الجنيات في الوادي."


"سعيدة لأنك ترين ذلك." ضربت آرتميس الأرض بعصاها تفكر. "لو عدت للدوريات، سأضطر لقمع ذلك الجزء مني الذي تقولين إنك معجبة به. ولقد حاولت فعل ذلك سنوات طويلة. لكن بعد أن رأيتِ ما فعلتِ..."


سكتت تبحث عن الكلمات. واحمرّت وجنتا كلاريون تحت نظراتها المليئة بالإيمان.


قالت آرتميس أخيرًا:

"أنا أؤمن بك. بقوتك. بلطفك. برؤيتك. 

حماية شخص مثلك هي أفضل ما يمكن أن أستخدم موهبتي لأجله."


خشيت كلاريون أن تبكي من شدّة صدقها، فمزحت قائلة:

"هل تقولين إنك ستفتقدينني؟"


ردت آرتميس : "ما أقوله هو أنني لا أثق بغيري لحراستك." . وأعجب كلاريون أنها لم تنكر اتهامها

 "مع مزاجك، المهمة أصعب مما قد يتخيل المرء. حتى أنا لم أؤدّها كما يجب مؤخرًا."


ثم نظرت إليها مليًا. ورغم أنها لم تنطق بالكلمات، قرأت كلاريون الرسالة الواضحة في عينيها: أنتِ تبدين مرهقة للغاية.


فضحكت كلاريون بلا مقاومة. لم يكن هناك مجال للجدال. فكلتاهما كانتا مستنزفتين بعد ما مرّتا به في الأيام الأخيرة.


"إذن..." قالت كلاريون بابتسامة هادئة. "سأكون سعيدة ببقائك. وسأفتقدك أنا أيضًا، تعلمين ذلك."


"حسنًا." قالت آرتميس بجفاء خفيف. "هذه الإصابة لن تمنعني من خدمتك."


"ليس لدي أي شك." ابتسمت كلاريون لها. "إذا سمحت لي، سأذهب لأطمئن على الجميع بالداخل."


"بالطبع، يا صاحبة السمو." انحنت آرتميس برأسها. ترددت قليلاً، كما لو كانت غير متأكدة مما ستقوله بعد ذلك. لكنها قالت أخيرًا:

"آخر مرة رايتها فيها، كانت لم تستيقظ بعد. وعندما تستيقظ..."


ضغطت كلاريون على كتفها مطمئنة وهي تمر بجانبها. وقالت : "ستكونين أول من يعرف "


تبعها همس آرتميس الرقيق: "شكرًا لك" وهي تدخل العيادة.


كان الهواء معبأً برائحة الأعشاب الطبية المألوفة: البابونج، جذر الخطمي، القراص.

 ومع إغلاق الباب خلفها، لاحظت أنها تسمع أصواتًا وضحكات تتسلل إلى البهو. لم تتذكر كلاريون أن صوت الضحكات كان بهذه القوة من قبل.


لأول مرة منذ أسابيع، بدا الجو... مرحًا تقريبًا.

 مستعجلة بالطاقة، أسرعت كلاريون لتجتاز ستارة النباتات المعلقة التي تفصل غرفة المرضى.


كانت الغرفة مكتظة.


لم تستطع كلاريون كبح دهشتها. الجنيات تجمعن محملتان بالازهار، و أواني من الحساء، وبالطبع كانت حول أسرت الجنيات اللواتي استيقظن حشود صغيرة. بعضهن يتحدثن ويضحكن، جاهزات لاستئناف حياتهن الطبيعية. بعضهن تبكين. وأخريات يحتضن صديقاتهن بعد خروجهن من كوابيسهن المؤلمة.


كانوا جميعًا محاطين بالحب بالكامل.


انشغلن تمامًا بلقائاتهن لدرجة أن لا أحد لاحظها عند الباب، إلا إلفينا، التي كانت في الخلف بجانب معالج. ابتسمت لها الملكة بلطف قبل أن تشير برأسها نحو سرير في الزاوية، وكأنها تقول: إنها هناك.


لم تضيع كلاريون وقتًا، وركضت نحو المكان الذي كانت بيترا مستلقية فيه. كان شعرها الأحمر مفروشًا بعناية على الوسادة، وتجاعيدها لامعة ومثالية كما لم تكن أبدًا في حياتها اليومية. بدا واضحًا أن أحدهم قد سرّح شعرها ولفّه على شكل جدائل. لم يكن التنظيم مناسبًا أبدًا لبيترا.

 ابتسمت كلاريون، مغمورة بالعاطفة التي اجتاحت قلبها.


أمسكت بلطف بيد بيترا. ثم همست:

"عندما تستيقظين، لدي الكثير لأخبركِ به."


تحركت بيترا لثواني وكأنها سمعتها .


"أرسلوا منادٍ لآرتميس!" صرخت كلاريون. كل ما استطاعت تسجيله كان رد بعيد من المعالجة: "حالًا، يا صاحبة السمو!" لم تستطع كلاريون التركيز إلا على شعورها بالارتياح، شعور ساطع وخفيف كأشعة الشمس.


اتسعت عينا بيترا، زجاجيتان ومشتتتان من الدهشة. وعندما رأت وجه كلاريون على بعد بضع بوصات، اتسعتا أكثر . 

صرخت وركضت نحوها:

"كلاريون!"


"بيترا." ارتعشت صوت كلاريون من شدة المشاعر.


"ماذا... أوه!"



احتضنت كلاريون بيترا بكلتا يديها. "لقد عدتِ ! ، شكرا لله " استرخَت بييترا بجانبها.

"ماذا حدث؟ أشعر بالراحة الكاملة، وكأنني ركضت بلا توقف لأيام. آخر شيء أتذكره..."


تراجعت كلاريون خطوة وهي تشعر بقشعريرة. أصبح وجه بيترا شاحبًا حين اجتاحت الذكريات ذهنها.


"الكوابيس انتهت الآن." قالت كلاريون. "أنتِ بأمان."


روت كلاريون لبيترا كل ما حدث منذ أن وقعت تحت تأثير سحر الكوابيس. وعندما انتهت، كانت بييترا تنظر إليها بعينين مليئتين بالتعاطف، حتى أن كلاريون كادت لا تحتمل النظر إليها.


"أنا آسفة جدًا." قالت كلتاهما في نفس اللحظة.


لحظة صمت، ثم انفجرتا في الضحك معًا.


"أنتِ آسفة؟" سألت كلاريون بدهشة. "لماذا؟ أنا من يجب أن يعتذر لك."


عبست بيترا قليلاً. "بسبب المسافة بيننا."


"لا تعتذري عن ذلك." قالت كلاريون. "لقد كنتِ دائمًا صديقة جيدة لي. وأنا..."


"مهلاً." وضعت بييترا يدها على ذراعها. "لا تحتاجين لمعاقبة نفسك، كلاريون. أنا أسامحك."


"حقًا؟"


"بالطبع." ابتسمت بييترا. "كنا كلانا مشغولتين بأمورنا الخاصة. أعلم أن الأمر سيستغرق بعض الوقت لنتعلم كيف نتأقلم مع حياة بعضنا بعد أن تصبحي ملكة. لكنني لن أذهب إلى أي مكان."


"شكرًا لك."


قبل أن ترد بيترا، اهتزت ستائر باب العيادة فجأة. التفتتا نحو مدخل غرفة المرضى. و آرتميس حلّقت على مسافة قصيرة، وعيناها واسعتان مملوءتان بالخوف والأمل.

"بيترا."


لم تسمع كلاريون صوتها بهذه الهشاشة من قبل.


اقتربت آرتميس منهما، متجاوزة الفوضى والمراتب قدر ما استطاعت مستندة إلى عصاها، لكنها كادت توقع كل شيء في عجلة. نظرت معالجة عند محطة عملها بقلق، لكنها لم تقل شيئًا، وبدلاً من ذلك شرعت في طحن التوت والأعشاب لتحضير مرهم.


عندما وصلت آرتميس إلى سرير بيترا، نظرت إليها.


"أنتِ..." بدأت بيترا، لكن صمتت حين عانقتها الكشافة فجاءة ، وعندما ابتعدت آرتميس نظرت أليها بامتنان 

 قالت ارتميس : "لا تخيفيني هكذا مرة أخرى." 


"أخيرًا." تمتمت كلاريون لنفسها. ثم قالت لهما: " سنكون ثلاثيا من رفيقات " 


لكن بدا أنهما بالكاد سمعتاها.

ثم وجهت كلاريون اهتمامها لبقية العيادة.

 كان هناك جنية أخرى يجب أن تزورها.


عندما وصلت إلى سرير وزير الخريف، جلست على الكرسي الفارغ ودرست وجهه، مسترخٍ وهادئ أثناء النوم. هكذا سينتهي كل شيء حيث بدأ.


لم تضطر للانتظار طويلًا. وعندما استيقظ، بهدوء ونعومة، كما لو اكتشف أنه أخذ قسطًا من الراحة اللازمة، التقت 

عيناه بعينيها مباشرة، ثم اتسعت ابتسامته.

"صاحبة الجلالة؟"


"ليس بعد." قالت كلاريون بهدوء.



أغمض عينيه مرة أخرى، وارتسمت على وجهه ابتسامة ارتياح.

"لطالما علمت أنكِ تستطيعين فعلها."


تعليقات