رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الثامن عشر | مترجم
منذ أن أُغلِق السجن، لم يهبط أي كابوس على "مملكة الجنيات" أثناء نومهم. لم يستيقظ أحد ليجد عمله مدمّرًا، ولم يقع أحد آخر ضحية لتلك اللعنة الرهيبة.
لكن في المقابل، لم يستفق أحد من حلمه الكابوسي أيضًا.
حين زارت "كلاريون" العيادة، سيطر عليها الصمت الغريب الذي خيّم على المكان.
نظرت إلى الجنيات النائمات، وقد أصابها ذهول لا يمكن وصفه. لكن ما تلا ذلك كان أشبه برياح قارسة، اخترقت أعماقها وأفرغتها من الداخل. لم تفهم ما حدث. لقد أغلقوا السجن، فلماذا لم ينجح الأمر كما حدث في السابق؟
ربما كان عليها ألّا تثق كثيرًا بالقصص. هي و"ميلوري" كان بإمكانهما منع المزيد من الوحوش من الهروب، لكن طالما لم يجدوا علاجًا لتلك اللعنة، فإن الكابوس لم ينتهِ بعد. والآن لم يتبقَّ أمامهم سوى أسبوع واحد لإنهائه.
على الأقل، بدأت "مملكة الجنيات" أخيرًا، وبخجل، تخفف من حذرها. ورغم أن هذا التطور أربك "إلفينا"، إلا أنها أعلنت عن رفع حظر التجول الليلة بمناسبة حفل التتويج.
أما "كلاريون"، فلم تكن في مزاج للاحتفال. لم تشعر بالرضا عمّا أنجزته حتى تتأكد أن كل شيء قد انتهى فعلًا، حتى ترى "راون" والبقية يستيقظون، ويحلّ الخريف في القارة دون تأخير. لا بد أن هناك طريقة لتحريرهم.
لكن كيف؟
ظلت "كلاريون" تقلب السؤال في ذهنها وهي ترتدي فستان الحفل، وحيدةً، غارقةً في التفكير داخل غرفتها. لم تستوعب تمامًا أن التاج سيكون لها خلال أسبوع. وربما لن تشعر بذلك حقًا حتى تثبت أنها تستحق اللقب.
كانت أبواب شرفتها مواربة، تسمح لنسمة مسائية باردة أن تتسلل إلى الداخل. عبق الأعشاب الدقيقة، وصلها بخفة.
زهور بنفسجية وصفراء تمايلت على الأغصان وكأنها تحاول لفت انتباهها، و شجرة غبار الجنيات أخرجت براعمًا جديدة في الأيام الماضية؛ بلغة الزهور، كانت تقول: "أنا هنا من أجلك." تأملت "كلاريون" في مدى اهتمامها بها مؤخرًا، ولم تستطع منع نفسها من التساؤل: هل تعلم أنها تحاول حمايته؟
وقفت أمام مرآتها، تشعر بسخف شديد، وبأنها أبعد ما تكون عن الملكة. ارتدت الفستان بعد أن بالغت في تقدير قدرتها على إغلاق الأزرار الصغيرة التي تمتد على طول ظهرها. القماش كان مفتوحًا من الخلف، ويكاد ينزلق عن كتفيها.
جاء طرقٌ خفيفٌ على الباب. اجتاحها شعور بالارتياح. أخيرًا، جاء من ينقذها.
"من هناك؟"
"أرتميس، يا صاحبة السمو."
"آه، حسنًا." ردّت، "ادخلي."
انفتح الباب، وظهرت "أرتميس" واقفة في المدخل، مرتدية زي الحارسات الكامل.
أعجبت "كلاريون" بجاكيتها، بخطوطه المصممة بعناية، وقماشه الأسود، وأزراره الذهبية اللامعة. ولاحظت أن سيفها لم يكن مجرد زينة. كانت تحمل نفس السيف الذي اعتادت أن تضعه عند خصرها، لكنّه اليوم موضوع في غمد مزخرف أكثر أناقة، تتخلله زخارف ذهبية دقيقة على شكل زهور. ولدهشتها، كانت "أرتميس" قد صفّفت شعرها أيضًا. كان يلمع كقشرة بلوط مصقولة، ممشطًا إلى الخلف ومثبتًا خلف أذنيها.
رغم أناقة زيّها، بدت مرهقة وحزينة بعض الشيء.
"كلاريون" شعرت أنها تفهم السبب. الليلة، سيُقام حفل تنصيب للكشافة الذين خاطروا بحياتهم في الأسابيع الماضية. إنه أعلى وسام يمكن أن يُمنح، وتقدّمه الملكة بنفسها. لم تكن بحاجة للسؤال لتعرف أن "أرتميس" تطمح لهذا الشرف، وتستحقه، بعد أن أنقذت حياتها.
نظرت "أرتميس" إلى المشهد أمامها، ويبدو أنها تأثرت بحال "كلاريون"، فسألت بلطف:
"هل تحتاجين إلى مساعدة؟"
نظرت إليها "كلاريون" عبر المرآة بنظرة امتنان.
"أرجوكِ،"
اقتربت "أرتميس" بخفة، وبدأت في تثبيت الأزرار بمهارة عملية وسرعة فائقة. وحين انتهت، رتّبت ذيل الفستان، فانسدل كتيار ماء ناعم.
الآن، استطاعت "كلاريون" أن ترى جمال الفستان كاملًا. كان القماش يلمع كضوء النجوم، ينعكس بوهج متغير على الجدران. قبل دقائق فقط، كانت قد جدلت شعرها، وتركت إحدى الجنيات الموهوبات إكليلًا من زهور "الفورسيثيا" وبتلات "الديزي" لتنسجه في ضفيرتها. لم يتبقَّ سوى وضع لمسات المكياج الأخيرة.
قالت "أرتميس : "تبدين رائعة،"
"وأنتِ أيضًا." و ابتسمت كلاريون للثناء، لكن لم تستطع تجاهل النظرة الحزينة التي خيّمت على وجه حارستها.
"كيف حالكِ؟"
بدت "أرتميس" متفاجئة قليلًا، لكنها أجابت:
"بخير."
رفعت "كلاريون" حاجبها.
"حقًا؟"
ساد صمت قصير، وكأن "أرتميس" فهمت السؤال الخفي خلف السؤال. ارتسمت على وجهها ملامح انزعاج خفيف، وقالت:
"آه ، بصراحة..."
فكّرت كلاريون، "الكشافة وصلابتهم العنيدة."
ربما لم يكن من المهني أن تنشغل بالأمر، لكن سلامتهم كانت تهمّها.
"أنتِ تستحقين التقدير أيضًا، تعلمين ذلك؟"
"لا يهم." قالتها أرتميس بسرعة. "لقد فعلت ما بوسعي، حتى لو كان بسيطًا. كل ما أريده هو خير مملكة الجنيات."
ابتعدت كلاريون عن انعكاسها في المرآة، ونظرت إلى أرتميس بنظرة ذات مغزى.
لا أحد يمكن أن يكون خيريًّا بهذا الشكل تمامًا.
"لكنّكِ تريدين أكثر من ذلك."
ترددت أرتميس.
"أعتقد ذلك."
للمرة الثانية منذ أن عرفتا بعضهما، دفعت كلاريون أرتميس إلى حافة هشاشتها.
لم تكن تعرف إن كانت ستنجح في إقناعها بأن تتجاوز تلك الحافة.
جلست على طرف السرير، وأسندت ذقنها إلى يديها.
"قلتِ لي ذات مرة إنكِ كنتِ تقودين بقلبك أكثر من عقلك. ولهذا تم تعيينكِ كحارستي. ماذا حدث بالضبط؟"
للحظة، ظنّت كلاريون أن أرتميس ستغيّر الموضوع تمامًا.
لكنها تنهدت تنهيدة طويلة، وجلست بجانبها على السرير.
هبط الفراش قليلًا تحت ثقلها. جلست أرتميس بظهر مستقيم، ويديها متشابكتين فوق ركبتيها.
"عندما وصلتُ لأول مرة إلى مملكة الجنيات،" تابعت ، "كانت هناك مشكلة قائمة.
صقرٌ عثر علينا، وحاول أن يفرض سيطرته على غابة الخريف.
لم يتمكن أيّ من الجنيات المختصات بالحيوانات من التعامل معه أو إقناعه بالرحيل،
فأصبح الأمر من مسؤولية الكشافة."
اضافت بعد صمت خفيف : "كنتُ حينها مشاغبة نوعًا ما."
ضحكت كلاريون بخفة، تحاول كتم ابتسامتها.
ابتسمت أرتميس ابتسامة ساخرة، لكنها سرعان ما تلاشت.
"دخلتُ في مواجهة معه، وكنتُ على وشك طرده.
كان في مرمى نظري، بعد أن حاصرناه أنا وصديقة من وحدتي.
لكنني قلّلت من تقدير كمية غبار الجنيات لديها. فسقطت..."
أجنحة الجنيات لا يمكنها حملهم دون غبار الجنيات.
وإذا كانوا يقاتلون صقرًا، فلا شك أنهم كانوا على ارتفاع شاهق فوق أرض الغابة.
همست كلاريون : "آه..." .
انحنت أرتميس برأسها، وشعرها الأسود يغطي وجهها.
"أنقذتُها، لكنني تركتُ الهدف يفلت.
وفُقد آخرون بسبب خطئي.
رأت قيادتي أنني لا أملك رباطة الجأش الكافية لاتخاذ قرارات سليمة في المعركة.
وقالوا إن غرائزي تجعلني أنسب للحراسة."
"الملكة الجيدة يجب أن تركز على المهمة،" قالت إلفينا ذات مرة، "وتساعد على نطاق واسع."
انقبض قلب كلاريون من الألم في صوت أرتميس، فهو ألم تعرفه جيدًا.
هي أيضًا لم تكن لتدير ظهرها لشخص يمكنها إنقاذه.
هل هذا هو معنى المسؤولية؟ أن تحمي الأغلبية المفترضة على حساب من أمامك؟
قالت كلاريون بهدوء : "لستُ متأكدة أنني أعتبر ذلك خطأً،" .
نظرت إليها أرتميس، والدهشة تلمع في عينيها.
هل يعقل انه لم يُبرّئها أحد من قبل؟
قريبًا، ستكون كلاريون قادرة على إعادة تعيينها رسميًا.
لقد عوقبت، وعاقبت نفسها، لوقت طويل جدًا.
"لا أظن أنني كنتُ سأتصرف بطريقة مختلفة.
ما فعلتِه كان شجاعًا."
دفعت كلاريون كتفها برفق نحو أرتميس.
"لديكِ قلب طيب، يا أرتميس. نحن بحاجة إلى المزيد من الجنيات مثلك في صفوف الكشافة."
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي أرتميس. وبشيء من التردد، وكأنها لا تثق في قدرتها على الكلام، قالت:
"هذا لطفٌ منكِ."
ابتسمت لها كلاريون.
"إنه حقيقي."
وقبل أن تتمكن أرتميس من الرد، دوّى طرقٌ آخر على الباب.
"إنها أنا."
أضافت "بترا".
كان من تقاليدهما أن تستعدا معًا للرقصات، لكن بين انشغالهما وتوتر الشتاء، لم تكن كلاريون متأكدة إن كان عليها أن تنتظرها.
قالت كلاريون "الباب مفتوح،" .
دخلت بترا الغرفة، كانت جميلة دائمًا، لكن الليلة كانت متألقة بحق.
صدر فستانها كان ضيقًا ومُفصّلًا، بينما تنسدل تنورته بطبقات أنيقة من اللبلاب.
شعرها الأحمر المجعّد تم تهذيبه وربطه بعقدة أنيقة عند مؤخرة عنقها، مع خصلات قليلة تزيّن وجهها بانسيابية.
علقت أرتميس .
"تبدين... رائعة جدًا."
"حسنًا..." بدت بترا متشككة، لكن شبه سعيدة.
"حسنًا،" تدخلت كلاريون." وأنا بحاجة لإنهاء استعداداتنا."
التقطت كلاريون فرشاة مكياج، ثم علبة ضحلة من ظلّ العيون.
في داخلها صبغة ذهبية مصنوعة من مزيج الطين وغبار الجنيات.
"هل ترغبين ببعض منها، أرتميس؟"
نظرت أرتميس إليها وكأنها تقيّم تهديدًا.
"لا، شكرًا. سأدعكِ تتولين ذلك."
هزّت كلاريون كتفها.
"استعيدي توازنك."
تراجعت بترا نحو الحائط بينما مرّت أرتميس بجانبها.
وحين أُغلقت الباب خلفها، عبرت بترا الغرفة بخفة، وتنورتها من اللبلاب تتمايل، وخصالها النارية تلمع.
"لم تخبريني أنها ستكون هنا."
"هي دائمًا هنا."
فتحت كلاريون علبة ظلّ العيون.
ولم تستطع مقاومة أن تضيف:
"إنها ودودة ولطيفة، تعلمين."
أضاء وجه بترا.
"حقًا؟"
شهقت كلاريون. لم تكن تنوي أن توقعها، لكنها الآن أكدت ما كانت تشك فيه منذ سنوات.
ضربتها بالفرشاة.
"كنتُ أعلم ذلك!"
"لا يوجد شيء لتعلميه!"
بدت بترا وكأنها على وشك أن تنتزع الفرشاة منها أو تقفز من أقرب نافذة، لكنها لم تفعل شيئًا لإخفاء شرارة المرح في عينيها.
"أوه، بل يوجد. ، انت تريدين مصداقتها اليس كذلك ؟"
"لا يهم على أي حال."
دفنت بترا وجهها في يديها.
"الأمر مخيف."
قاومت كلاريون رغبتها في التنهّد.
"فقط اطلبي منها لن تعضّكِ."
قالت بترا بجدية قاتمة : "لكنها قد تطعنني،" .
ابتسمت كلاريون. كم كان من السهل أن تنجرف في هذا النمط معها. بدا الأمر طبيعيًا إلى درجة أنها كادت تنسى حديثهما المتوتر الأخير و كادت تنسى أن الليلة عليها أن تتوارى عن الأنظار.
---- كلاكما، أنتِ وإلفينا، تعتمدان عليّ كي تنجح خطتكما. أن أكون في هذا الموقع ليس بالأمر السهل بالنسبة لي-----
تسللت تلك الذكرى الى كلاريون، ذلك التذكير بالمسافة بينهما، ونسجت في داخلها الألم.
لو علمت بترا أنها تخطط للتسلل إلى "شتاء" الليلة، كانت ستحاول منعها.
و لكن الآن وقد بات واضحًا أن خطتها لم تنجح بالكامل، أصبحت بحاجة للحديث مع ميلوري أكثر من أي وقت مضى. لا بد أن هناك شيئًا يمكن فعله، أي شيء يمنع إلفينا من استخدام ما سلّحتها به بترا.
تلطف تعبير بترا بالقلق.
"ما الأمر؟"
"هناك الكثير في ذهني مؤخرًا. أمور التتويج."
أجبرت كلاريون ابتسامة على وجهها. وفي محاولة لإشغال نفسها، حرّكت بعض زجاجات العطر الزجاجية. ارتطمت ببعضها بصوت متناغم، لكنه بدا عاليًا جدًا وسط هذا الصمت الهش.
"تعالي. اجلسي."
جلست بترا بحذر على طرف السرير.
استدارت كلاريون نحوها، وكادت ركبتيهما أن تتلامسا. غمست فرشاتها في طلاء العين، ثم أمسكت بذقن بترا بأطراف أصابعها.
"كالعادة؟"
" نعم " وبعد لحظة، أضافت:
"لكن يجب أن يبدو رائعًا بشكل خاص."
قالت كلاريون بنبرة ماكرة : "بالطبع لا." .
أسندت معصمها إلى عظمة وجنة بترا، ومسحت الذهب على جفنيها. رنّت أساورها برقة، وزفرات بترا الهادئة لامست بشرتها وهي تعمل. انغمست كلاريون في إيقاعها المعتاد، تمزج وتطبّق الصبغة على عظمة الحاجب. وحين انتهت من العينين، انتقلت إلى فرشاتها الأكثر نعومة، ونثرت غبار الجنيات على وجنتي بترا. كان هذا كل ما تحتاجه. أي شيء أكثر من ذلك سيخفي نمشها.
قالت كلاريون : "افتحي عينيكِ." .
فعلت، وتوقف قلب كلاريون لوهلة. لون الذهب في الطلاء، مع الأحمر الناري في شعرها، أبرزا كل درجات الأخضر في عينيها. كانت بلون غابة صيفية مضيئة بالشمس.
وضعت كلاريون الفرشاة : "أنتِ...مثالية "
تابعت : "سيقع اي شلب في حبكِ اليوم ."
تأوهت بترا باحتجاج غير واضح، ورغم الخوف والتوتر، ضحكت كلاريون. لبضع ساعات أخرى، ربما يمكنها التظاهر بأن كل شيء كما كان دائمًا.
------------
وبحلول الوقت الذي وصلن فيه إلى الحفل ، في ارض الصيف ، كانت الاحتفالات قد بدأت بالفعل.
عبرت كلاريون وبترا وآرتميس تحت "حلقة الجنيات"، وهي دائرة من الفطر ذي القبعات الحمراء، ودخلن قاعة الرقص، يتقدمن على صوت المذيع الرنان والمشرق.
رؤيتة ذلك سلبت كلاريون أنفاسها.
كانت اليراعات، المعلّقة من الأغصان المنخفضة، تنثر هالة زرقاء ناعمة فوق العشب ، و بين الحين والآخر تخترق الظلام بنقاط ضوء صغيرة وهي تسبح في الهواء ، ومع ذلك، حتى دون مساعدتها، كانت الساحة بأكملها مضاءة بشكل مدهش، بفضل أنوار القمر.
وفي المركز، كانت تنبع عين ماء ، التي تحوّلت إلى عرضٍ مبهر بفضل مواهب الماء المتجمعة حولها. بإيماءة من أيديهم، ارتفعت قطرات من سطح الماء وانكسرت فيها أنوار القمر. خيوط رقيقة من الماء شقّت طريقها في الهواء، ثم تلاشت في ستارة ضبابية متلألئة.
في نهاية قاعة الرقص، رصدت كلاريون وجهتها: منصة بُنيت فوق جذع شجرة صغيرة مغطاة بالطحلب.
من هناك، استطاعت أن تلمح أطراف تاج إلفينا ولمعة جناحيها. وعندما أمالت عنقها لتلقي نظرة أوضح، لمحت القائد بيلادونا يحوم بجانبها. قريبًا، ستكون إلى جانبه بينما تترأس إلفينا مراسم منح وسام الفروسية.
مرّوا بجانب طاولات الولائم، وكل واحدة منها كانت مكدّسة بجهود مواهب المطبخ : كعكة العسل ، وتوت العليق، وشرائح التين؛ فطائر التوت الأزرق المغطاة بسكر ؛ مربى الخوخ وخبز ذهبي؛ شرائح سميكة من الطماطم مع رشة ملح وريحان؛ كؤوس من عصير الكشمش الأحمر؛ فجل مخلل وورق السلق الملون؛ أباريق ماء تتصبب عرقًا من برودتها بنكهة زهر البرتقال والنعناع؛ وفطيرة الفراولة المفتتة. سال لعاب كلاريون وهي تتأمل كل ذلك.
لكن أكثر ما لفت انتباهها كان العارضين، جميعهم يرتدون أبهى حللهم. كانت الجنيات مسترخيات فوق بتلات الزهور التي تتفتح ليلًا، يتأنّقن تحت ضوء القمر الكامل ، و أخريات تمددن فوق الفطر أو حلقن بلا هدف في الهواء، يتحدثن بهدوء مع أصدقائهن. عادةً، كانت أحاديثهم المتحمسة تطغى على صوت الموسيقى الأوركسترالية. لكن الليلة، كان الجو مشوبًا بشيء من الحزن.
فالجنيات النائمات كنّ حاضرات في أذهان الجميع.
وأثناء عبورها الساحة، انتبه الحشد لها، وسكنت الأحاديث.
كانت كلاريون تسمع همسات الاحترام من حولها : "صاحبة السمو." كثيرون انحنوا أو انحنين لها أثناء مرورها.
كان حضور آرتميس مريحًا إلى جانبها، تقودها نحو المنصة كما يقود مقدّم سفينة قراصنة طريقه عبر أمواج البحر .
أومأت لها كلاريون بإيماءة سريعة امتنانًا، قبل أن تطفو لتنضم إلى الملكة وقائد الكشافة.
حدّقت بها إلفينا، وهي تمسك صولجانها الاحتفالي بين يديها.
ومهما رأت في تلك اللحظة، فقد أرضاها، لأنها قالت لها:
"تبدين كملكة الليلة."
كان الفخر المتلألئ في عينيها يربك كلاريون. كم تاقت لسماع هذه الكلمات، وكم بدا شعورها فارغًا وغريبًا الآن، حين لا تعرف إلفينا ما الذي فعلته.
"شكرًا لك."
استدارت إلفينا نحو الجنيات المجتمعات ، عزفت الأوركسترا نغمة مرتجفة أخيرة تلاشت في هواء الصيف الرطب، ومعها اكتمل الصمت.
"مرحبًا بالجميع. شكرًا لحضوركم حفل التتويج المقام تكريمًا للأميرة كلاريون، التي ستُتوّج ملكة لكم خلال أسبوع."
توقفت إلفينا، وقد ارتجف صوتها. عبست كلاريون. لم ترَ إلفينا تتردد من قبل، خاصة أمام رعاياها. لكن الآن، وقد بدأت تتمعّن فيها، لاحظت أن وجه إلفينا بدا شاحبًا بعض الشيء.
"لقد بدا وكأن وقتًا طويلًا قد مرّ منذ أن اجتمعنا جميعًا هكذا...، بينما يبقى المصابون في الهجوم في صدارة أفكارنا، فإن الظل الداكن الذي خيّم على بيكسي هولو بدأ أخيرًا في الانحسار."
اندلعت تصفيقات خجولة في الساحة. وحين هدأت، تابعت إلفينا:
"ولذلك، أود أن أبدأ هذه الأمسية بتكريم بعض مواهب الكشافة الشجعان. لقد عملوا بلا كلل لضمان سلامتنا. كل ليلة، خاطروا بحياتهم وهم يحلقون في السماء، أخلوا المناطق عند الحاجة، قدّموا تقارير دقيقة، وساعدوا في إصلاح الأضرار التي سببتها الكوابيس. الليلة، سيتم تكريمهم بأعلى وسام يمكن أن يناله كشاف: وسام الفروسية."
نظرت كلاريون إلى الكشافة، مصطفّين في صفوف منظمة أمام المنصة.
ورغم أن معظمهم كانوا يبتسمون بفخر، لم تستطع التركيز إلا على أرتميس. كانت تقف في مؤخرة المجموعة، وعلى وجهها شوقٌ واضح جعل كلاريون تضطر إلى تحويل نظرها.
"جميع فرسان مملكة الحنيات، تفضلوا بالانضمام إليّ."
ارتفع عدد قليل من الكشافة في الهواء، وحلّقوا خلف إلفينا في نصف دائرة.
كان كل واحد منهم يرتدي دبوسًا على طية جاكيته: قطعة لؤلؤ أذن البحر المتلألئة على شكل نجمة، تلمع فوق القماش الأسود.
قالت إلفينا بنبرة رسمية : "تقدموا عندما يُنادى عليكم،" .
راقبت كلاريون، واحدًا تلو الآخر، وهم يتقدمون ويركعون أمام إلفينا. حتى ورؤوسهم منحنية، كانت تشعر بالسعادة التي تشع منهم. لقد استحقوا ذلك، حقًا. لكن كلاريون لم تستطع مقاومة الشعور المرير الذي اجتاحها، وهي تعلم أن أرتميس قد فوّتت ما كانت تتوق إليه بشدة.
"أُعلن انضمامكم إلى رتبة فرسان مملكة الجنيات الشرفية."
لمست إلفينا أكتافهم بصولجانها.
"انهض، أيها الفارس، وتلقَّ التحية."
وحين تم تنصيب آخرهم، انفجر الحشد بالهتافات والتصفيق. وسط هذا الصخب، صعد أحد الخدم إلى المنصة وناول كلاريون كأسًا رقيقًا. كان باردًا على بشرتها، وحين نظرت إليه، رأت أنه عصير ليمون مزين بغصن من إكليل الجبل.
"والآن،" صاحت إلفينا فوق الضجيج، "ستُلقي ملكتكم القادمة بضع كلمات."
جفّ حلق كلاريون بينما تركزت كل الأنظار عليها.
التفت إلى الأمام، ونظرت إلى رعاياها. كانت هذه أول مرة تخاطبهم بنفسها، والواقع كان أكثر رهبة من الفكرة. غمرها حر الصيف المتكاسل، أو ربما كانت أعصابها هي ما جعلها تشعر بتلك السخونة.
"مساء الخير،" قالتها ، وصوتها غير ثابت.
"أود أن أكرر ما قالته جلالتها حين شكرت حضوركم الليلة. سأحتفظ بخطابي ليوم التتويج، لكن في الوقت الحالي، أقول إنني أقدّر حضوركم للاحتفال بهذه المناسبة أكثر مما أستطيع التعبير عنه. استمتعوا بهذه الليلة، وارقصوا تكريمًا لي. إذًا..."
رفعت كأسها.
"لكم جميعًا، ولأيام أكثر إشراقًا قادمة."
انتشر صوت ارتطام الكؤوس عبر الساحة.
شربت كلاريون رشفة من عصيرها، فقط لتطرد الطعم المر من فمها.
لم تكن تستحق الاحتفال، وهي لم توقظ بعد أولئك النائمين من لعنتها.
وبينما عزفت الأوركسترا لحنًا جديدًا، وضعت إلفينا يدها على كتف كلاريون.
ورغم أنها لم تتكلم، فهمت كلاريون ما تعنيه: لقد أحسنتِ.
"تابعي،" قالت إلفينا. "استمتعي ببقية أمسيَتكِ."
"سأفعل."
ومضة من الترقب اجتاحت كلاريون.
الآن، وقد أدّت واجبها، يمكنها زيارة رعاياها في الشتاء.
كل ما تبقى هو أن تنسلّ دون أن يلاحظها أحد.
بينما كانت ترفرف حول قاعة الرقص، راقبت الجنيات وهن يدُرن في الهواء على أنغام جينيات مواهب الموسيقى.
سيستمر الرقص حتى وقت متأخر من الليل، إلى أن يغمر غبار الجنيات وضوء النجوم المملكة بأسرها. طوال حياتها، كانت تعرف جيدًا شعور الوحدة وسط الحشود. لكنها لم تشعر به بهذه الحدة كما شعرت الليلة. رؤية الآخرين وهم يمسكون بأيدي بعضهم، يدورون ويضحكون ويتبادلون الشركاء، ذكّرها بكل الأشياء التي لن تنالها أبدًا.
يدٌ أمسكت بذراعها، وانتشلتها من أفكارها. وحين استدارت لترى من اقترب منها، وجدت نفسها تحدّق في وجه بترا. انقبض بطن كلاريون.
"يا لي من محظوظة..." فكّرت. "كيف سأهرب الآن؟"
"رأيت زاوية هادئة هناك،" قالت بترا، وكأنها كانت تتحدث منذ بضع ثوانٍ.
"ما رأيك؟"
"في الواقع..." قالت كلاريون، وهي تحرر نفسها من قبضة بترا بلطف قدر الإمكان،
"لا أشعر أنني بخير."
"أوه، لا. لا يمكنك استخدام هذه الحجة إذا لم أسمح لكِ. لا يمكنك تركي هنا، حيث قد يتحدث إليّ الناس..." ارتجفت بترا، "أو ما هو أسوأ."
"وما الأسوأ من ذلك؟"
"الكثير من الأشياء! مثل..." توقفت بترا، "لا، لا تشتتيني. إذا ذهبتِ، سأذهب معكِ."
"لا،" قالت كلاريون بسرعة. "أعني... لا، لا داعي لذلك."
نظرت إليها بترا بشك.
"لماذا؟"
"لأن..." بحثت كلاريون عن عذر، "فقط أريد أن أتنفس قليلًا. يجب أن تبقي وتستمتعي بالحفل."
"أستمتع..." تمتمت بترا، "أنتِ تعرفين أنني لا أحب الحفلات. ما الذي يحدث فعلًا؟"
ضحكت كلاريون، وكان صوتها هشًا حتى على مسامعها.
"لا بأس."
وضعت بترا يدها على خصرها : "إذًا لماذا تحاولين الهروب مني؟"
كانت عنيدة جدا.
"أنا لا أهرب،" قالتها كلاريون، وهي تحاول أن تخفي نفاد صبرها المتزايد من صوتها.
لكن يبدو أنها فشلت، لأن بترا نظرت إليها بنفاد صبر واضح.
"هل فعلتُ شيئًا؟"
"لا، بالطبع لا."
نظرت كلاريون خلف كتفها بقلق. كانت بحاجة ماسة للابتعاد.
"أنا فقط... أريد أن أكون وحدي."
احمرّ وجه بترا.
"لا يمكنني أن أعتذر لكِ إذا لم أعرف لماذا أنتِ منزعجة."
بدأت بعض الجنيات القريبات ينظرن إليهما بفضول.
أمسكت كلاريون بمعصم بترا، وقادتها إلى حافة "حلقة الجنيات"، حيث امتدت ظلال الغابة بين أقواس الفطر.
كان ضوء الحفل يلمع فوق غبار الجنيات على جسر أنف بترا، ويشعل شعرها الأحمر كالنار.
ومع ذلك، هنا في شبه الظلام، شعرت كلاريون بقشعريرة غريبة.
ضمّت ذراعيها حول نفسها، وثبّتت نظرها على الأرض.
من الواضح أنها لن تهرب دون أن تكون صادقة.
"أنا لست غاضبة منكِ. فقط... أنتِ لم ترغبي أن أتحدث إليكِ عن الشتاء."
تراجعت بترا خطوة بتأمل.
"هل الأمر يتعلق بالشتاء؟ ما شأنكِ هناك؟ الهجمات توقفت."
"لكن لا أحد استيقظ،" ردّت كلاريون.
"وإلفينا أرتني ما صنعتِه لها."
"آه..."
اه ؟ هل كان هذا كل ما لديها لتقوله؟
حين رفعت كلاريون نظرها، وجدت بترا تحدّق بها، ووجهها شاحب كشتاءٍ صامت.
"لقد أخبرتكِ برأيي في خطتها، وظننتُ أنكِ توافقينني."
اهتز صوت كلاريون بانفعال لم تكن تدرك أنها على وشك الانفجار.
كان هناك الكثير مما أرادت قوله، لكنها لم تكن ترغب في أن تهاجم وهي تتألم.
لم يكن خطأ بترا.
فولاؤها للتاج، لا لكلاريون.
ومع ذلك، فإن تورط بترا جعل الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة لها.
"لا يهم. أنا أبذل قصارى جهدي لحل المشكلة بطريقتي الخاصة."
تدريجيًا، تحوّل تعبير بترا من الألم إلى التصميم، لكن احمرار وجهها لم يتلاشَ.
فالمشاعر القوية كانت دائمًا تصبغ وجهها بالأحمر القاني.
"وهذا فعلًا ما تنوين فعله الآن؟"
لم تعجب كلاريون نبرة الحكم في صوتها.
وبحذر، قالت:
"لقد فعلتُ كل ما طُلب مني الليلة. أنا أحاول أن أحمي مملكة الجنيات."
أطلقت بترا صوتًا خافتًا، مشوبًا بالإحباط.
"في فستان سهرة، كلاريون؟
أنا لست ساذجة.
أنتِ لا تذهبين للبحث عن علاج.
أنتِ ذاهبة لرؤية الحارس."
تراجعت كلاريون خطوة إلى الوراء.
هل كانت بترا تكره ميلوري لأنه أخذ من وقت كلاريون؟
أم أنها حقًا تعتقد أن كلاريون واقعة في الحب لدرجة أنها تضعه فوق واجباتها؟
في كلتا الحالتين، شعرت كلاريون بالاستياء.
"وماذا لو كنتُ كذلك؟"
نظرت إليها بترا بعدم تصديق.
"تتويجكِ بعد أسبوع."
ردّت بمرارة : "وهذا يعني أن عليّ البقاء في المنزل حتى ذلك الحين ؟ " اضافت :"وألا أتحدث إلى أي شخص لا توافقين عليه ؟ "
"لا. هذا يعني أنه عليكِ أن تكوني أكثر مسؤولية.
اللعب بهذه الطريقة خطر جدًا!"
توهّجت بترا أكثر، واحترق أطراف نورها باللون البرتقالي.
"لقد تأذيتِ بالفعل بسببه.
أصبحتِ بعيدة، منهكة طوال الوقت.
والتسلل الليلة، بينما الجميع ينظر إليكِ طلبًا للطمأنينة بأن الأمور ستكون بخير؟
إنه قرار سيئ.
لكنّكِ لم تستمعي إليّ يومًا.
ومَن يفعل؟
لا أحد يأخذني على محمل الجد، لأنني تلك التي تخاف من كل شيء."
أطفأ الألم في صوتها أشدّ نيران الغضب في قلب كلاريون.
لكن كلمات بترا أصابت وترًا حساسًا.
أنتِ تظنين أنني أنانية.
أنني لا آخذ دوري بجدية.
حبست كلاريون تلك الكلمات بين أسنانها.
لم تتذكر آخر مرة تشاجرة هي وبترا هكذا.
و رغم احتراقها بالرغبة في الدفاع عن نفسها، ورغم شوقها لإصلاح ما انكسر بينهما، لم يكن لديها وقت لهذا.
مهما كانت الاتهامات التي أرادت بترا أن توجهها، فالأمر لم يكن فقط عن مشاعرها، بل عن مملكة الجنيات أيضًا.
ولم تكن مدينة لها بأي تفسير.
أغمضت كلاريون عينيها بإحكام، وكأن ذلك سيمنع دموعها من الانهمار.
وبغضبٍ مكبوت، وبأكبر قدر من الحذر، دفعت دموعها بعيدًا.
"عليّ أن أذهب."
"كلاريون، أرجوكِ..."
ابتلعت كلاريون ألمها، وانزلقت في الظلام، متجهة نحو الشتاء.
تعليقات
إرسال تعليق