رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل السابع عشر | مترجم

كل دقيقة انتظرتها كلاريون عند الحدود كانت تمر ببطء شديد، كأن الزمن يتجمد

. راحت تمشي بلا توقف على ضفة النهر، وطرف معطفها المرقّع يرفرف خلفها. 

كانت تحدّق في صف الأشجار، وكل ما تخيلته هو كوابيس تنبثق من الظلال، سوداء شرهة. تخيلت الجذور التي كانت تربطهم، وهي تقطعها بيدها. لم تعد تحتمل رؤية نفسها بهذه الصورة: ملكة باردة، بعيدة، تزن الأرواح كما يُوزن القمح على الميزان.

 كان فوق رأسها خيط من ضوء النجوم، يتصاعد منه دخان قوتها. وغبار شجرة الجنيات يتدفق في النهر كدم من جرح بشري.


قالت لإلفينا: "وحشية".


أفكارها المظلمة المتضاربة لم تكن إلا وقودًا لخوفها من لقاء ميلوري مجددًا.

 قضت ساعات طويلة تسترجع تلك القبلة، وتتخيل ما سيقوله لها حين يلتقيان.

 لكن تلك المخاوف بدت الآن بعيدة جدًا. ومع ذلك، كان ترقّبهت يزداد مع كل ثانية تمر.


لحسن الحظ، لم يطل عذابها. فميلوري لم  يتأخر أبدًا.


بل وصل مبكرًا.


لم تكن الشمس قد بدأت بالغروب حين وصل. الثلج كان يدور حوله وهو يهبط على الجسر الفاصل بين عالميهما برشاقة صامتة.

و رغم كل شيء، خفق قلبها حين رأته. لم تدرك كم كانت تفتقده بشدة إلا عندما وقف أمامها.

 وجدت كلاريون نفسها ممزقة بين رغبتها في الابتعاد عنه، وبين اندفاعها نحوه. لكن النظرة الحذرة في وجهه، وتصلّب كتفيه، جعلا قرارها أسهل. آلَمها أن ترى هذا الدليل الواضح على ما كانت تخشاه.


لا شيء يمكن أن يجمع بينهما.


شدّت كلاريون معطفها حول جسدها وهي تخطو نحو الجسر، وتنهّدت وهي تشعر بالغبار ينبض تحت قدميها. الكلمات تبخّرت من ذهنها وهي تحدّق فيه...


كما في كل مرة، كان جماله الحاد كقطعة جليد تخترق القلب. لمع الصقيع على رموشه الشاحبة، التي انسدلت فوق عينيها الرماديتين. تجنّبت النظر إليه.


–"كلاريون."  

قال اسمها بقدر من الرسمية كأنما يناديها بـ"جلالتك". جسدها كله ارتجف من برودة صوته.


 "ميلوري."


امتدّ الصمت الثقيل بينهما. وحين لم يعد يحتمله، قال فجأة: "هناك شيء يجب أن تعرفيه"، في نفس اللحظة التي قال فيها: "كنت أريد أن..."


تلاقت أعينهما، وارتسم دفء خفيف على وجهه. كانت شفتاه لا تزالان نصف مفتوحتين، والاعتراف الذي كان على وشك قوله ظلّ معلّقًا في الهواء.

 ظهرت على وجهه نظرة هشّة، جعلت كلاريون تتساءل إن كان قد ارتكبت خطأً. الأمل تسرّب إلى داخلها، لكنها رفضت أن نسمح لنفسها بتفسير ذلك. كان مجرد تردد بينهما، جعل كليهما يشعر بالتوتر.


بعد لحظة، هزّ رأسه وقال: "تفضلي. أنتِ أولًا."


أخذت كلاريون نفسًا عميقًا لتستجمع نفسها. والآن بعد أن منحها زمام المبادرة، شعرت بصفاء أكبر. من أين تبدأ؟ بطريقة ما، بدت مخاطر خطة إلفينا على غابة الشتاء أسهل من مواجهة مشاعرها.  

"تحدثت إلى إلفينا قبل قليل."


من الواضح أن هذا لم يكن ما توقعه. رمش ميلوري بعينيه، وكأنه استيقظ من حلم مزعج. خفّ بعض توتره، لكنها رأت فيه رغبة مكبوتة في معرفة المزيد. وبصبر، قال: "أفهم."


رغم أن الفصل ربيع، شعرت ببرودة شديدة وهي تسترجع ما دار بينها وبين إلفينا. ضمّت ذراعيها إلى صدرها لتدفع القشعريرة بعيدًا.  

"قالت لي إن أول حارس لغابة الشتاء حاول الإطاحة بملكة الجنيات. وفي رأيها، هذا هو السبب في انقطاع العلاقة بين مملكتينا. والأسوأ، أنها تعتقد أن الكوابيس كانت تملك نوعًا من السيطرة عليه. وأنه من الممكن أن يتكرر الأمر من جديد، و..."


لم تستطع إكمال الجملة. لم تكن تريد قولها، ولا حتى طرح الأسئلة التي أيقظها الخوف في داخلها.


هل تعتقد أن هذا ممكن؟  

هل يحمل في قلبه نفس الحقد الذي حمله الحارس الأول؟


راقبت كلاريون ملامحه وهي تتغير تدريجيًا، ثم فجأة، وكأنه توصّل أخيرًا إلى حل لغز كان يؤرقه.  

"أنتِ قلقة من أن يكون ذلك صحيحًا."  

لم يكن في صوته أي لوم، فقط فهم هادئ ومستسلم.


اجتاحها شعور بالذنب. كيف لها أن تشك فيه، وهو وشعبه لم يُظهروا لها سوى اللطف؟ شبكت يديها لتمنع نفسها من الاقتراب منه.  

"قلقي نابع من اهتمامي بك. لم تعطِني يومًا سببًا لأشك فيك."


قطّب حاجبيه، وعادت الحيرة إلى وجهه.  

"لم أرَ كابوسًا يسيطر على أحد وهو مستيقظ. لا أعتقد أن ذلك ممكن."


– "هذا مطمئن." همست بها كلاريون  "لا بد أن هناك علامة ما. ألم تلاحظ شيئًا..."


وقف ميلوري، وأبعد نظره عنها مجددًا.  

"لم أنم جيدًا منذ أيام. غير ذلك... لا."


تسلّل إليها الخوف.  

" هل تظن أن..."


قاطعها :  "ليست الكوابيس ما يُبقيني مستيقظًا، يا كلاريون."


كان صوته رقيقًا للغاية، حتى أنها للحظة ظنّت أنها لم تسمعه جيدًا. 

لكن حين نظرت إليه، كانت نظراته مشبعة بصدق وعمق جعل أذنيها تحترّان خجلًا.

 استيقظت في جسدها ذكرى قبلته، تتسلل على بشرتها كشرارات دافئة، وتُشعل وهجها بلون وردي خفيف. 

. آه، لقد كانت ساذجة بما يكفي لتصدق أن رجلًا مثل ميلوري يفعل شيئًا واحدًا دون أن يعنيه بالكامل.


 "يا إلهي..."  خرجت منها كأنها تنهيدة عارية من أي تكلّف.

  

تابعت وقد امتزج الألم والارتياح في كلماتها، كل حرف يحمل نغمة مزدوجة : 

"في البداية، خفت أن شيئًا ما قد حدث. ثم أقنعت نفسي أنك ندمت."


قال : "لا."  

ضحك ضحكة خالية من المرح ثم تابع : 

"لم أندم أبدًا. كل ما أندم عليه هو أنني جعلتك تقلقين "


ذلك ما أرعبها أكثر من أي شيء: شعور أن قلبها بات خارج صدرها. كان يقف أمامها، قريبًا بما يكفي لتلمسه، لكنه ليس قريبًا بما يكفي. كانت تخشى ألا تشعر بالرضا إلا إذا استطاعا أن يتشاركا عالميهما حقًا. والآن بعد أن عرفت بخطة إلفينا... باتت تخاف من فكرة أن يُفصل بينهما إلى الأبد.


لم تسطع التوقف عن الحديث، كان عليها أن تخبره بما عرفته.


–"أعلم أن هناك الكثير لأقوله."  

اقتربت منه خطوة، حتى شعرت ببرودة الشتاء تلامس وجهها. أغلقت أصابعها حول ساعدها وضغطت بلطف.  

"لكن هذا ليس كل ما أخبرتني به إلفينا."


حين رأى ميلوري نظرة الأمل تتلاشى من عينيها، قال:  

"ما الأمر؟"


اجابت :  "إلفينا على وشك تنفيذ خطتها. أمامنا حتى الانقلاب الصيفي قبل أن تُدمّر الجسور بين الشتاء والفصول الدافئة."


اختفى اللون من وجهه. وحين استطاع أن يتكلم، قال:  

 "لم أكن أظن أن ذلك ممكن."


ردّن بصوت يائس جعلها ترتجف:  

 "ولا أنا. لكن لا يزال لدينا وقت قبل غروب الشمس. أنا...  مستعد للمحاولة من جديد."


لكن إن فشلت...


لا، لا جدوى من التفكير بذلك. لن تفشل مرة أخرى.


جمعت شجاعتهت وقالت:  

– "أعتقد أنني وأنتِ ولدنا لنفعل هذا معًا، لننهي مشكلة الكوابيس إلى الأبد."


 "أنا وأنتِ"،  

كررها وكأنها قسم.


ربما كانت عبارة جريئة، لكن ما وجداه معًا بدا وكأنه قدر، خاصة حين امتلأ الفراغ بينهما بشرارات الاحتمال.


 "إذا أغلقنا السجن قبل أن تغيب الشمس تمامًا، فلن يكون للكوابيس فرصة للخروج ليلًا."  

رفعت ذقنها، محاولة أن تبدو واثقة أكثر مما تشعر.  

راقبها ميلوري بعينين نصف مغمضتين، وقد بدأت مقاومته الأولى تتلاشى، لتحل محلها نظرة تشبه... الإعجاب؟  

تابعت كلاريون قبل أن تفقد شجاعتها:  

– "بعد ذلك، يجب أن يستيقظ كل من كان تحت تأثير الكوابيس، تمامًا كما حدث حين ختمت مواهب الأحلام الكوابيس لأول مرة."


 "حسنًا."  

قالها بتردد خفيف.  

"لكن إن أردنا الوصول إلى السجن قبل غروب الشمس، فعلينا أن نطير."


 كلاريون : "تقصد نوكتوا."


 "بالطبع، لسنا مضطرين لذلك،" قال ميلوري، وابتسامة صغيرة تشكلت عند طرف فمه.  

"لكننا سنضطر للقاء مجددًا غدًا، والبدء بالمشي في وقت أبكر بكثير."


كتمت أنينًا داخليًا.  

 "حسنًا. نادِها."


بدت السعادة على وجه ميلوري. وضع إصبعين على شفتيه وصفّر. اخترق الصوت سكون الغابة الهادئ،  لم تمر سوى ثوانٍ حتى ظهرت نوكتوا، مندفعة من بين قمم الصنوبر، ترسم شكلًا داكنًا في السماء المتوهجة باللون الأحمر.


بتنهيدة استسلام، أغلقت كلاريون أزرار معطفها ودخلت عالم الشتاء. رفرفت نوكتوا بريشها وأطلقت صوتًا خافتًا وهي تقترب منها. على الأقل، هذه المرة لم تتراجع.


قال ميلوري :  "أظنها  تحبك،" .  

تابع :"إن أردتِ، يمكنك السفر وحدك هذه المرة."


لكن الاقتراح ملأ ذهنها بصور سقوطها نحو نهاية مأساوية.


مدّت يدها نحو اللجام.  

– "لا، لا أظن ذلك."


وضع ميلوري يده على خصرها، مستعدًا لرفعها. تسللت برودة لمسته إلى داخل معطفها، واضطرت كلاريون لمقاومة رغبتها في الاقتراب أكثر.

 بنبرة مرحة، قال لها:  

 "ملكة الجنيات وجدت من ينافسها حقًا."


وكان لها أن ترد بالمثل. ابتسمت له بخجل.  

 "أو ربما... أريد أن أكون قريبة منك."


ويبدو أن ذلك أسكت أي رد ذكي كان ينوي قوله.

 بشعور خفيف بالانتصار، بدأت كلاريون تتسلّق ظهر نوكتوا. دفعة واحدة كانت كافية لتجد مكانها بسهولة، ولم ترتجف حين التفتت نوكتوا لتتفحصها بعينها الذهبية. ربما كان خيالًا، لكن كلاريون أقسمت أنها رأت لمعة رضا في نظرتها.

 جلس ميلوري خلفها، وضع ذراعه حولها، وأمسك باللجام بيده الأخرى.


– "جاهزة؟"  

همسه لامس أذنها، وارتعاشة لطيفة سرت في جسدها.


ردّت : "جاهزة،" .


وانطلقا في الطيران....

 تفاديا أغصان الصنوبر المثقلة بالثلج، ومرّا بجانب كتل الجليد . وحين اخترقا سقف الأشجار، انحبست أنفاس كلاريون.

 امتدّت أمامها مساحات لا نهائية من الثلج والمياه الباردة، تتلألأ تحت ضوء الذهبي. بدا كل شيء صغيرًا من هذا الارتفاع، ومع جناحيها المخبّأين تحت المعطف، شعرت بنشوة لطيران.

 الرياح الباردة جعلت شعرها يتطاير خلفها، وقرصت طرف أنفها. كانت كل ندفة ثلج ملوّنة بالوردي والذهبي، بينما كانت الشمس تستقر كجمرة متوهجة بين قمم الجبال.


ثم غاصا في ظل الغابة. تحتهم، كانت عين البحيرة المتجمدة تحدّق بها، وكأن كل الكوابيس التي تغلي تحتها شعرت بوجودها وكرهتها.

 ارتفع نبضها خوفًا، والجرح في ذراعها خفق بألم الذكرى لما حدث آخر مرة زارت هذا المكان، لكنها لم تكن لتسمح لنفسها بفقدان السيطرة الآن.


احضنتهم أشجار الصنوبر، وهبطت نوكتوا على غصن منخفض. حتى من هنا، كان الضباب الكثيف الذي يغطي الجليد يزحف نحوهم. 

وقف شعر مؤخرة عنقها ، وحتى نوكتوا نفشت ريشها بقلق. 

دون تفكير، مسحت كلاريون أعلى رأسها لتهدئتها، ثم انزلقت من على ظهر البومة. كانت خطواتها تُحدث صوتًا خافتًا وهي تغوص في الثلج العميق.


هبط ميلوري بجانبها، وعيناه الرماديتان مثبتتان على السجن المختبئ خلف صف أشجار البتولا الملتوية. 

هبّت ريح أخرى عبر الأشجار، تمزّق فراءهم بمخالب جليدية. ارتفع حجاب من الثلج عن الأرض، محوّلًا ضوء الشمس المتلاشي إلى بياض غامض. بدا كل شيء وكأنه تحذير:  

غادروا هذا المكان.


سأل ميلوري :  "هل نبدأ؟" .


كلاريون بتردد :  "انتظر لحظة."  

فجاءة شبك أصابعه بأصابعها، وكلاريون فعلت ما بوسعها كي لا تذوب. لمسته ثبتتها، وأشعلت فيها مشاعر أكثر مما تودّ الاعتراف به.


يدًا بيد، شقّا طريقهما عبر أكوام الثلج حتى وصلا أخيرًا إلى حافة البحيرة المتجمدة. 

 الصمت هنا كان غير طبيعي، وكأن البحيرة تبتلع كل صوت. استقر الخوف على كتفيها كعباءة من الفولاذ. حاولت كلاريون أن تتنفس رغم ثقله.


خطت فوق الجليد. سطحه الغادر كان يلمع، لكنها استطاعت أن ترى أشكال الكوابيس المشوشة وهي تتحرك تحت قدميها كأنها مياه مظلمة. ومع تقدمها وميلوري نحو مركز البحيرة، كانت الكوابيس تتراجع ثم تهاجم على دفعات. تجنّبت الشقوق الرفيعة في الجليد، التي كانت تئن تحت وطأتها. ارتجفت وهي تفكر بما قد يحدث إن سقطت في أعماق البحيرة.


حين وصلا إلى المركز، كان ضوء النهار مجرد خط أحمر على الأفق. كانت تشعر بجوع الكوابيس وتوقها للحرية يتصاعد من بين الشقوق. كانت تدور معًا، تتوق للخروج.


الآن أو لا.


بتردد، أفلتت كلاريون يدها من يد ميلوري. انحنت بجانب الشقوق الجديدة في الجليد، وتركت وعيها ينزلق نحو حاجز جنيات الاحلام القديم تحتها، نحو خيوطه المتآكلة ونسيجه المتفكك، بالكاد يمنع الوحوش من الانفلات. لقد أصبح أضعف مما كان عليه في زيارتهم السابقة. وكانت قوتها تتوق لإصلاحه.


غريزتها الأولى كانت أن تلجأ لما تعرفه: أن تتحكم بنفسها، أن تركز، أن تدفع نفسها. لكنها بدلًا من ذلك، أغمضت عينيها، وشعرت بقدميها مغروستين في الجليد، وبصدرها يرتفع وينخفض مع كل نفس.  

ربما لو رأت نفسها كما يراها ميلوري...


أنتِ ولدتِ من أجل هذا.


ملأها يقين هادئ. كانت الطاقة تتوهج تحت جلدها، تزداد قوة. ضغطت كلاريون راحة يدها على الجليد، وتركت غبارها يتدفق خلاله. تصاعد ضوء ذهبي عبر ذراعها، وتجمّع في كفها. انعكست دهشة ميلوري في وهج قوتها.


وأطلقتها.


تدفّق ضوء النجوم داخل الجليد، ونسج حول خيوط الأحلام المتآكلة. قوّاها، وغرزًا بعد غرزة، بدأ في إصلاح التمزقات. أضاء غبارها الجليد من الداخل، وغمرها بضوء ذهبي متداخل.


ومع تحرك الكوابيس داخل سجنها، دوّت صرخاتها . هاجمتها بسيل من المشاعر السلبية: لسعة الرفض، الغثيان الناتج عن الإهانة، والرعب الحاد من أن شيئًا ما سيعود ليطاردها.

 كل ما رأته كان أنيابًا تزمجر وعيونًا حاقدة. وكل ما فكرت فيه كان تلك النسخة المستقبلية المرعبة من نفسها، تقطع الشتاء بضربة واحدة. كانت كل مخاوفها الأسوأ قريبة جدًا، ملحّة، وحقيقية بشكل لا يُحتمل. بدأ الضغط يتراكم خلف عينيها. وبدأت يداها ترتجفان.


وبحلقة أخيرة مشدودة، انتهى عملها. أصبح الحاجز المرمم يلمع كطبقة رقيقة من حرير العنكبوت. ومن خلال الغرز، بالكاد كانت ترى الكوابيس وهي تتراجع، تزمجر وتعضّ، منزعجة من حدودها الجديدة.


 "ميلوري!"  

  نادته

 "الآن."


مدّ يديه، وتفتّحت طبقة من الصقيع فوق الجليد المحطّم. بدأت صرخات الكوابيس تتلاشى، حتى لم يعد يسمعها إطلاقًا.


خفت ضوء الحاجز تحت سطح البحيرة المتجمدة، واستقر الليل بهدوء في الفراغ الذي تركه. 

ومع تكيّف رؤيتها مع الظلام المرصّع بالنجوم، تأملت كلاريون ما أنجزته. بدا الجليد نفسه وكأنه يتلألأ. ومع إغلاق السجن، خفّ الضغط الذي كان يخنق المكان، وتخيلت كلاريون أن هذا هو ما كانت عليه البحيرة قبل قرون.


جميلة.


أطلق ميلوري صوتًا خافتًا من الدهشة. وحين التفتت إليه، شعرت بوخزة شوق جديدة. كان ضوء القمر يكسوه ويغلفه، وكان يبدو متألقًا بهذا الشكل، خاصة مع ابتسامته التي زادت الأمر سحرًا.


 "لقد فعلناها."


لم تستطع منع نفسها من الابتسام له.  

 "نعم، فعلناها."


كانت بالكاد تصدق ذلك. بعد أسابيع من الخوف والشك، تمكّنا من تحرير شعبهما من الكوابيس. لم يكن لديها وقت لتستوعب الأمر، لأن ميلوري، بجناحيه، ارتفع عن الأرض. أمسك بيديها المغلّفتين بالقفازات، ثم طار إلى الخلف، حتى بدأت تنزلق خلفه فوق الجليد.


– "ميلوري!"  

احتجّت وهي تضحك. كانت تنوي التوقف، لكن فرحته كانت معدية. استسلمت، وتركت نفسها تنزلق على السطح.


دار بها ليبطئ حركتها، واضعًا يده على خصرها ليوازنها.


 "تعالي معي. أريد أن أريك شيئًا."


وحين يكون بهذه السعادة العفوية، كيف لها أن ترفض؟  

– "بالطبع. إلى أي مكان."

 

                     --------------------


قادها ميلوري إلى قمة جبل أخر ، ومن هناك، كان المشهد ساحرًا : 

غابة الشتاء، و خاصتاً البحيرة المتجمدة الواسعة. كان جليدها ناعمًا كمرآة، يلمع الآن بعروق ذهبية.

 و أبعد قليلًا، رأت قاعة الشتاء تتلألأ تحت ضوء القمر، ومنازل الجنيات الشتوية تضيء كاليراعات في العتمة. وهناك، متألقة ومذهلة، كانت شجرة غبار الجنيات. بدا من غير المعقول أنها تقف هناك، تنظر إلى المكان الذي قضت فيه حياتها كلها، المكان الذي ظنّت أنها لن تغادره أبدًا.


لكن هذا لم يكن المشهد الذي أراد ميلوري أن يريها إياه.


على حافة تطلّ على سجن الكوابيس، كان هناك تمثال ضخم منحوت بالكامل من الجليد.


اقتربت كلاريون منه ، ورفعت رأسها لتتأمله بالكامل. كان التمثال لرجل ، يده تستقر على سيف عند خصره. عصابة رأس منقوشة برموز رقاقات الثلج الشتوية تزيّن جبينه. عباءة مزيّنة بفراء حيوان ترفرف خلفه. جناحاه، وقد اخترقهما ضوء القمر، كانا يلمعان كأنهما الشتاء نفسه. بدا مألوفًا بشكل غريب... يكاد يكون ميلوري، بتعابيره الصامتة وعينيه المتعبة.


   "ها هو،" 

قالها ميلوري

"هذا هو أول حارس لغابة الشتاء. يُقال إن هذا التمثال أُنشئ بأمر من ملكة الجنيات نفسها."


همست كلاريون :  "سيد الشتاء،" .


 "نعم،" قالها بعد لحظة صمت.  

"أعتقد أنه كان يُعرف بهذا اللقب أيضًا."


لم يكن يبدو كتمثال لرجل خاطر بكل شيء من أجل كبريائه. بل بدا كشخص، حتى بعد موته، لم ينسَ واجبه.


دار ميلوري حول التمثال، حتى وقعت عيناه على القاعدة. كانت مغطاة بالطحالب وطبقات كثيفة من الثلج، لكنه لمح كتابة خافتة تحتها. جثا بجانبها، وبدأ يكشط الجليد بيده المغطاة بالقفاز. شيئًا فشيئًا، بدأت الحروف تظهر. تابع المسح حتى استطاع قراءة النقش المحفور:


**على الجليد وفي قلوب جميع سكان مملكة الجنيات ، تبقى ذكرى سيد الشتاء، صديقٌ حقيقي وحامٍ لا يُكسر،  

محفوظة إلى الأبد.**


وتحت السطر الأخير، كان هناك نقش خافت. تعرفت عليه كلاريون فورًا:  

شجرة غبار الجنيات محاطة بجناحي فراشة ملكية.  

انقبض قلبها عند رؤيته. لم يكن هذا تمثالًا يُبنى للأحياء، مما يعني أن قصة إلفينا كانت خاطئة تمامًا. لم تكن هناك ثورة مزعومة مزّقت المملكتين، ولا خيانة. هذا الاكتشاف منحها قدرًا من الراحة، رغم أنه زاد من حيرتها.


سألت :  "فما الذي حدث إذًا؟ ، كيف وصلنا إلى هذا الحال؟"


"لا أعلم."  

جثا ميلوري بجانبها، ونظر إلى التمثال.  

 "في كتاباته، شدّد على أن الكوابيس ليست أمرًا يجب أن تقلق الملكة بشأنه. أعتقد أن من خلفه لم يكونوا قريبين من الملكة كما كان هو، وربما تباعدنا تدريجيًا مع الزمن. أظن أن هذه صفة نشترك فيها جميعًا: الرغبة في حمل العبء وحدنا."


قالت :  

"أفهم الحاجة إلى هذه النظرة للعالم."


وضعت كلاريون يدها على ذراعه.وتابعت : 

 "لكن أنت لم تفعل ذلك."


 "لم أفعل."  

ابتسم ابتسامة حزينة.  

 "لستَ الجني الوحيد في مملكة الجنيات الذي يظن أنه لا يستطيع فعل ما ولد لأجله. على مدى أجيال، قام كل حارس لغابة الشتاء بواجبه دون تقصير، إلا أنا. ما حدث لرعايانا هو خطئي بالكامل، وأنا من طلب منك أن تصلح خطئي."


خطئي تمامًا.  

ألم تكن تفكر بنفس الشيء حين كانت راكعة وسط أنقاض غابة الخريف؟  

لكن حين سمعته يقولها، أدركت كم أن ذلك غير عادل. لا ينبغي لأحد أن يتحمّل كل هذا العبء وحده.


 "أنا مدين لك بالكثير،" تابع : "وحين تخبرين شعبك بما حدث، إن أردتِ أن تلومي أحدًا..."


قاطعته  "كيف ألومك؟ ، ماذا كان بوسعك أن تفعل؟"


سكت.


تابعت :  "أنت لا تدين لي بشيء. إن كان هناك دين، فهو عليّ."  

أمسكت بيديه.  

 "فاغفر لنفسك. ما حدث كان سيقع بطريقة أو بأخرى. أنا وأنت فقط كنا غير المحظوظين الذين اضطروا لإصلاح ما لم يستطع من قبلنا إصلاحه. لقد أضعنا وقتًا طويلًا نحاول أن نكون مثلهم. لكنك، وحدك، أصلحة كل شيء."


رفع ميلوري نظره إليها من جديد، وسكن العالم كله كما يسكن الشتاء في أعمق لحظاته ....

توقف تساقط الثلج، وتحولت الرياح إلى همسة خافتة. 

كانت المشاعر المتلألئة في عينيه كافية لتسلب أنفاسها، ثم أدركت كم هما قريبان. أنفاسهما كانت تتكاثف في المسافة الضيقة بينهما.


 "آمل أن تعرفي أن الأمر ينطبق عليك أيضًا."  

بهدوء، أزاح ميلوري خصلة من شعرها خلف أذنها. مرّت  أصابعه بخفة على عظم وجنتها وهو يسحب يده.


 "ستكونين ملكة رائعة."


ورغم أن قلبها ارتفع فرحًا لسماع ذلك منه، إلا أن ذكرى تتويجها اجتاحت واقعها كالموجة. بدا الأمر قاسيًا:  أن تضطر لوداعه. ستنتهي أيام التسلل إلى الشتاء، وسينتهي كل ما كان بينهما. لأن لحظة وضع التاج على رأسها، ستقضي بقية حياتها في القصر، وستكون أيامها مليئة بالاجتماعات والمراسم والاستقبالات. ستصبح نجمة باردة، عالية في برجها، تراقب من بعيد كل ما أقسمت أن ترعاه.


كـ"كلاريون"، كانت تستطيع أن تعتني به.  

لكن "ملكة الجنيات" لا يمكنها أن تكون معه حقًا، ولا مع أي أحد آخر.


شعر ميلوري بالتغيير في مزاجها.  

 "هل كل شيء بخير؟"


 "نعم."  

أجبرت نفسها على الابتسام.  

– "أنا فقط أشعر بالبرد."


لم يبدو مقتنعًا، لكنه قال:  

 "دعيني أعيدك إلى الربيع إذًا."


ظلت كلاريون صامتة طوال الرحلة إلى الحدود. لم يضغط عليها، رغم أنها شعرت بقلقه يتسلل إليها

وعندما وقفت عند حافة الجسر، استدارت لتواجهه. لم تستطع أن تتركهما يتألمان دون نهاية واضحة، ليس مرة أخرى. ثم إنها وعدته بأن يُكملا الحديث الذي بدأاه.


 "عليّ أن أعترف" تابعت :  "لقد كذبت. ليس كل شيء على ما يرام."


"آه،"  

قالها بنبرة توحي بأنه لم يكن متأكدًا إن كان عليه أن يتظاهر بالمفاجأة.


"و هل لي أن أعرف ما الذي يزعجك؟"


لم تكن تعرف إن كان عليها أن تضحك أم تبكي. كيف يمكنها أن تجيب؟  

الآن وقد أنجزا ما جاءا من أجله، لم يعد هناك سبب لرؤيتهما بعضهما مجددًا.


 "سأفتقدك."


– "هل هذا كل شيء؟"  

سألها.  

– "يمكنك العودة غدًا."


 "لا أستطيع."  

تدفّق الإحباط والحنين داخلها.  

لو كان الأمر بهذه البساطة فقط...  

– "تتويجي سيكون بعد أسبوع تقريبًا، يا ميلوري. واجباتنا كحاكمين ستفصلنا عن بعضنا."


كانت كلماتها كملكة، جعلته يتراجع قليلًا.  

هزّ ميلوري رأسه، بالكاد.  

رأت فيه رغبة في الاعتراض، لكنه اكتفى بالقول:  

 "أفهم."


– "أنا معجبة بك،"  

تابعت وهي تلهث.  

– "كثيرًا، أكثر مما ينبغي."


 "إذًا لا أفهم لماذا..."


 "أنا خائفة. من مقدار حبي لك. من الألم الذي سيصاحب فقدانك.  

أنا جادة. لا أندم على شيء. أنا سعيدة بما حدث، لكن لا يمكن أن يتكرر.  

في المستقبل، يجب أن نحافظ على مسافة رسمية بيننا. قبل أن يصبح الأمر مؤلمًا أكثر."


ومع مرور الثواني، بدأت ملامح الألم على وجهه تتلاشى تدريجيًا. اقترب منها بحذر، وكأنه يخشى أن تهرب. بصوت منخفض، قال:


– "لا أعتقد أنني كنت غامضًا بشأن مشاعري،  

لكن أظن أنه يجب أن أخبرك أنني...  

أنا أيضًا معجب بك."


لم تستطع كلاريون أن تمنع نفسها من الضحك، رغم أن الدموع كانت على وشك أن تخنقها. أسندت جبهتها إلى كتفه، فقط لتخفي كم أثّرت كلماته فيها. كانت تظن أنها تعرف منذ زمن ما يشعر به، لكن سماعه يعترف بذلك بصوتٍ عالٍ... جعل الأمر حقيقيًا. شيئًا يمكن أن تخسره.


قالت :  "هل هذا فقط ما فهمته من كلامي؟"


رد ميلوري : "لا أعتقد أن واجباتنا تفرض علينا الابتعاد عن بعضنا. لكنني سأناقش وجهة نظري في وقتٍ لاحق."  

وحين تجرأت على النظر إليه مجددًا، كان قد أشاح بوجهه. ولو لم تكن تعرفه جيدًا، لقالت إنه بدا متوترًا.  

– "كنت أود دعوتك إلى حفلة تتويج الشتاء. ستُقام تكريمًا لك."


كان في صوته هدوء هشّ، يخفي خلفه هشاشة حقيقية، وكأنه يحاول التماسك.  

هل عليه دائمًا أن يجعل الأمور بهذه الصعوبة؟  


 "ميلوري..."


 "بالطبع، يمكن لضيفة الشرف أن تحضر بصفتها الرسمية،"  

أضاف بسرعة،  

 "رعايا الشتاء متحمسون جدًا للقائك."


فكّرت في الأمر. المنطق يقول إنه يجب أن ترفض الدعوة. سيكون من الأسهل أن تقطع العلاقة تمامًا، لا أن تعذّب نفسها بالبقاء قربه.  

لكن إن أرادت أن تبني جسرًا بين الشتاء والفصول الدافئة، فعليها أن تتعلم كيف تتحمّل ذلك.  

ربما، مع الوقت، ستتلاشى هذه المشاعر وتتحول إلى مجرد ذكرى.  

وفي هذه الأثناء، عليها أن تتدرّب.


الحضور، بالطبع، سيكون تحديًا لوجستيًا.  

لكن كم سيكون صعبًا أن تتسلل من حفلة تتويجها الخاصة؟  

بعد أداء المهام الرسمية وتبادل المجاملات مع الجنيات المهمات، لن يلاحظ أحد إن اختفت لساعة أو اثنتين.  

ستعود قبل أن يفتقدها أحد.


شدّت كلاريون كمّ معطفها.  

– "ليس لدي ما أرتديه لحفلة شتوية."


 ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه : 

"أنت الملكة. يمكنك ارتداء ما تشائين."


شعور دافئ، مؤلم وجميل، غمر صدرها.  

– "إذًا، أعتقد أنني سأذهب."


 "حقًا؟"  

وحين اشتعلت حماسته، خفّفها بسرعة.  

– "الجميع سيكون سعيدًا برؤيتك."


قالت :  "وأنا أيضًا."


لكنها أدركت متأخرة أنها لم تبتعد عنه، وأنها لم تكن تريد ذلك، رغم أنها تعرف تمامًا أن عليها الحفاظ على المسافة بينهما.  

كان من السهل أن تقف على أطراف أصابعها وتقبّله كما فعلت في الليلة الماضية، أن تمرّر أصابعها في شعره الأبيض كالثلج.

نظرت إلى وجهه، وتوقفت للحظة عند شفتيه.  

كانت محقة، لم يكن يومًا بارعًا في الإخفاء.  

وكلاريون كانت تعرف، حتى في أعماق روحها، أنه سيسمح لها بذلك.  

ومع ذلك، ظل ساكنًا، كأنه رجل منحوت من الجليد.


 "ستصابين بالبرد إن بقيت هنا أكثر،"  

تمتم.  

ردت سريعا :  

 "قيل لي إن البرد مفيد لي."


استغرق الأمر لحظة فقط لتدرك أنها أعادت عليه كلماته.  

ومضة من الشوق الحلو المرّ أضاءت عينيها، وعرفت كلاريون حينها أنها تجاوزت خطًا قد لا تستطيع العودة منه أبدًا.  

ربما كان من الأفضل ألا تعرف ما الذي كانت ستفتقده.


وربما...  

كان من الأفضل أن تتألم،  

من أن تندم.

تعليقات