رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الثالث | مترجم
في صباح اليوم التالي، وبينما لا تزال تحذيرات إلفينا تصدح في أذنها، بدأت كلاريون تستعد لاجتماع المجلس—أول اجتماع ستقوده بمفردها.
وبحرص، راجعت للمرة الأخيرة الأوراق المبعثرة على مكتبها، وهي مجموعة من تقارير وزرائها.
ولحسن حظها ، جاء جدول أعمال اليوم خفيفًا بشكل مفاجئ.
فـ"جوف الجنّيات" تكون في أوج نشاطها قبيل تغيّر الفصول، ومع اقتراب الانقلاب الصيفي بعد شهر، لم يكن ربيع هذا العام يشهد أي هدنة حقيقية.
ناهيك عن أمر التتويج الملكي...
تتويجها هي. مجرد التفكير بذلك كان كفيلاً بإشعال أعصابها مجددًا. قريبًا، ستتخذ كلاريون قرارات تضمن استمرار دور المملكة على الوجه الأمثل، وتبدّل الفصول بسلاسة. لم تكن "جوف الجنّيات" تعتمد عليها فحسب، بل القارة كلها، وكل البشر الذين يسكنونها.
لو استسلمت لهذا الضغط، لانكسرت. لكنها عوضًا عن ذلك، قررت تطبيق نصيحة إلفينا، والتركيز على ما هو أمامها الآن. فإن عجزت عن استحضار دفقة من قدرتها ، فعلى الأقل ستدير الاجتماع ببراعة لا غبار عليها. ولن تجد إلفينا اليوم ما تنتقده.
وقفت، فانتشر البرد في جسدها فجأة. التفتت كلاريون، وكأنها توقعت أن ترى أحدًا يراقبها من خلف أبواب شرفتها الزجاجية. لكن ما رأته كان مجرد انعكاسها المرهق ، وخلفها جبال "غابة الشتاء".
كانت تتخيل أن الجبال تحدّق بها هي الأخرى.
طوال حياتها، كانوا يخبرونها بأن جنّيات الشتاء لا يُوثق بهن.
ولم يتبقَ سوى القليل من القصص التي تروي أصل النزاع بين الجانبين، لكن كلاريون كانت قد قرأت واحدة أو اثنتين...
كانت المسرحيات التي تناولت النزاع الذي مزّق عالمهم تترك أثرًا عميقًا فيها.
لا تزال تذكر كيف جلست بجانب إلفينا، مبهورة، ويديها تشدّان على حاجز صندوق الأوبرا، بينما ساغا، أبرع رواة جوف الجنيات ، تروي قصة تيتانيا، أول ملكة في تاريخ الجنّيات.
كانت الصور تتلألأ خلفها وهي تروي القصة ، صورة لغيمة من الغبار الذهب و رماح جليدية ، و شجرة غبار الجنّيات، بالكاد نبتة صغيرة تميل مع الريح...
والحارس الجليدي للغابة الشتوية، بوجه القاسي ، غارقًا في عتمة رهيبة.
رأت كلاريون القصة رومانسية إلى حد مأساوي، بينما سخرت إلفينا من موت أحد مستشاري تيتانيا.
ومع كل هذه الدراما، لم تسرد الأسطورة التفاصيل التي تشوقت كلاريون لمعرفة حقيقتها.
كل ما قيل كان عن خلاف غامض بين الملكتين، وقوة مظلمة التهمت حارس الغابة الشتوية. وبالنسبة لمعظم سكان المواسم الدافئة، كان هذا كافيًا لكبت أي فضول تجاه جيرانهم.
جمعت كلاريون أوراقها وفتحت أبواب شرفتها. ليتدفق نسيم عليل، وتتسرّب أصوات استيقاظ جوف الجنيات من الأعلى.
بخفقة من جناحيها، قفزت على درابزين الشرفة ثم حلّقت في الهواء.
--------------------
في مكان آخر، تسلّق أحدهم بين الأغصان حتى رأى منبع بئر غبار الجنّيات.
شلال من الغبار الذهبي كان ينسكب من فجوة في الجذع، فوق بتلات وردية لزهرة زنبق.
وكان الفائض ينهمر عبر صفوف من فطر المحار ، حتى يستقر أخيرًا في قلب البئر، الموجود داخل تشابك أغصان الشجرة.
ماذة غبار الجنّيات، هي اساس حياتهم، يُنتَج في أعماق قلب الشجرة.
لا أحد يعلم من اين اتى أو لماذا. فقد كتب علماء الغبار مجلداتٍ مليئة بالنظريات، ولكن كلاريون لم تكن تعرف سوى حقيقة واحدة: قوة غامضة تسري في ذلك الغبار، وينتشر عبر جذور الشجرة، حتى يغمُر جوف الجنيات بأكملها.
وإذا تأملت، تستطيع أن تشعر به من حولها، دافئًا ومريحًا، برائحته الحلوة كالشاي بالعسل أو كعكة قرفة خرجت للتوّ من الفرن. حضوره الرقيق كان يُدهشها دومًا.
في وقتٍ مبكر، بدأ الجميع يصطف للحصول على حصتهم اليومية من الغبار—كوب شاي، ولا شيء أكثر.
وقف المسؤلون عن التوزيع في مياه البئر الضحلة، يغرفون الغبار بكؤوسهم، ثم يسكبونه فوق كل جنّية. من دون هذا الغبار، لا يمكن لأجنحة الجنّيات أن تحملهن في الجو.
على طول الصف، كان الجميع يتبادل الضحكات والثرثرات. بعضهم يحمل كأس شاي من الهندباء طلبًا للطاقة، وآخرون لا يزالون ينبضون بالحيوية من ورديات الليل.
أحد رجال العصافير، في الأسفل، لمح كلاريون خلف ستارٍ من الأوراق، فلوّح لها بخجل. ثم تلبّك، خجِلًا، وراح يعبث بنصل عشبةٍ بيده كما لو أنها أداةٌ معقدة.
حاولت كلاريون ألّا تُظهِر خيبة أملها. كانت بترا تقول دومًا إن في ملامحها شيء من الهيبة، وكذلك نبرة صوتها. ولم يكن بوسعها أن تغيّر ذلك.
"جلالتك..."
شهقت كلاريون في مفاجأة. رفعت رأسها لتجد أرتميس جالسةً على أحد الأغصان فوقها. كانت دائمًا تبرع في التخفي بين الأنظار، موهبة مثيرة للإعجاب... لكنها، أحيانًا، مرعبة.
"صباح الخير"، قالت كلاريون، بأنفاس متقطعة قليلاً.
بدت ملامح حارستها أقرب إلى التعاطف، وإن كان من الصعب الجزم بذلك، فـ"أرتميس" تتقن فن الصمت المتزن. لكن أحياناً، كانت كلاريون تلاحظ نظراتٍ شاردة من أرتميس نحو الكشافة الآخرين وهم ينطلقون في دورياتهم، وفي عينيها شيء يشبه الحنين. وحين سألتها كلاريون مرة عن الأمر، أغلقت أرتميس نفسها كليًا. بعض الجروح—هكذا كانت تظن كلاريون—لا يجل العبث بها.
قالت أرتميس بنبرة حادة: "لم يعتادوا على الالفة مع الملكة. إنهم يظهرون احترامهم لكِ، لا أكثر."
احترام، حقًا؟ حتى لو كانت ترغب فيه، لم تكن تشعر أنها تستحقه. ومع ذلك، كانت محاولات أرتميس الخجولة للتخفيف عنها تبعث شيئًا من البهجة في قلبها، دائمًا. وبالطبع ولن تعترف بذلك أرتميس ، لكن كلاريون كانت تظن أن خلف ذلك القناع المهني البارد، روحًا حساسة تخفي نفسها. وربما، ذات يوم، تكشف عنها.
قالت كلاريون بلهجة رسمية متكلفة، "لنذهب، إذًا؟"
أومأت أرتميس.
حاولت كلاريون البقاء بعيدة عن الأنظار، وهي في طريقهما نحو قاعة المجلس، الواقعة أسفل بئر غبار الجنّيات مباشرة.
لم يكن هناك بابٌ ، بل سقفٌ مقبّب منحوت بطريقةٍ تجعل من جوانبه تبدو كقطع من السماء المفتوحة. زخارف دقيقة مغطاة بلون غبار الجنّيات الزاهي تملأ شرائح اللحاء الرقيقة بين كل لوحٍ وآخر. وبين ثنايا تلك التصاميم، كانت رموز الفصول الأربعة مضمّنة بعناية: زهرةٌ دائمة الخضرة للربيع، قمرٌ مكتمل للخريف، قوس قزح للصيف، وندفة ثلج للشتاء.
لطالما أثار هذا فضول كلاريون—إن كانت الممالك منفصلة منذ البداية، فلماذا اختار الفنّانون إدراج رمز الشتاء ضمن أعمالهم؟
كلما اقتربت، بدأت تسمع أصوات جدال الوزراء تتسرب من السقف المفتوح.
مهما كان موضوع النقاش في هذا الصباح، فأكيد ليس ضمن قدراتها، كما توقعت. يبدو أن العلاقات طويلة الأمد بين أعضاء المجلس كانت مليئة بالخلافات الصغيرة المتراكمة، لم تتكن فهم اصلا تلك الخلفات. على أية حال، لم يتوقفوا يومًا عن التنافس حول من هو "الأكثر أهمية" .
أخذت نفسًا عميقًا، ثم دخلت القاعة.
كان الوزراء الثلاثة مجتمعين حول طاولةٍ طويلة تشغل أغلب مساحة الغرفة. بدا وزير الربيع متحمسًا وهو يلقي خطابًا متوهجًا، بينما أومأ وزير الخريف موافقًا برأسه. أما وزيرة الصيف، فكانت تبدو وكأنها على وشك الاستغراق في النوم وهي واقفة.
ولكن، بمجرد أن لمحوا كلاريون، خيّم الصمت على الجميع. وقد تعلّمت أنه من ضمن موهبة الحكم: القدرة على جذب انتباه الآخرين بمجرد الحضور.
اختفت أرتميس في الاركان ، تقف في وضعٍ مثالي يشبه العرض العسكري.
رفعت كلاريون ذقنها بثقة، وتقدمت نحو رأس الطاولة، حيث اعتادت إلفينا الوقوف.
كان الأقرب إليها وزير الخريف، "راون"، الذي بادرها بابتسامةٍ هادئة. وجنتاه متوردتان، وعيناه البنيتان تلتمعان بلطف، وشعره الكستنائي يتلوى حول أذنيه.
كان يرتدي عباءةً من أوراق الخريف المخيطة بعناية، تتوسطها مشبكة من الكستناء المصقول. كانت كلاريون تميل إليه أكثر من غيره، فقط لأنه يجرؤ على كسر البروتوكول أحيانًا في حضورها. كان ذكيًا، لطيفًا، وقليلاً ما يدخل في نوبات حزن عابرة.
و بجانبه وقفت وزيرة الصيف، "أوريليا"، التي رفعت ذقنها بشكل هادئ.
هذا اليوم، ارتدت زينة موسمها: فستانًا من الزهور ، وقلادة من زينيا، وأساور من ورود متفتحة. جمعت شعرها في كعكة متقنة تعلو رأسها كتاج مزهر .
ثم جاءت وزيرة الربيع، "إيريس"، التي لوحت لكلاريون بإشارة صغيرة من أطراف أصابعها.
اختارت فستانًا يشبه الزهرة ، بتنورة واسعة، تنسج براعم ناعمة وصغيرة نفسها حول اطراف ثوبها كإكليل.
كانت بشرتها دافئة بلون الرمل، وعيناها سوداوان تقريبًا كسواد شعرها، الذي انسدل طويلاً حتى منتصف ظهرها. كفصلها، كانت خفيفة، منعشة، مرحة، حيوية—روح مشرقة بما يكفي لإيقاظ الطبيعة من سباتها.
كانت هذه حاشية إلفينا طوال حياة كلاريون.
ومع ذلك، لم تستطع أن تتجاهل شعورها بأنهم يبدون ناقصين دون وزير الشتاء.
في مكان ما وراء الحدود، كان حارس غابة الشتاء يحكم مملكته المتجمدة في عزلة.
حتى لو كانت الفصول الدافئة على وفاق مع الشتاء، فلم يكن بإمكان حارس الغابة الانضمام إلى تجمعاتهم.
فكما أن الجنيات الدافئات لا يتحملن برد الشتاء؛ حيث تصبح بعد دقائق أجنحتهن هشّة وتتفتت. كانت جنيات الشتاء اجنحتهن تذوب تحت شمس كما يذوب الصقيع.
ابتسمت إيريس ابتسامة مشرقة، وقالت: "صباح الخير، يا صاحبة السمو!"
انتبهت كلاريون له. كانت بهجته، رغم الصباح الباكر، قادرة على إدهاشها.
ردت : "صباح الخير."
قال راون، وهو يخفض صوته بنبرة متآمرة: "سمعت أنكِ ستقوديننا اليوم. هل أقنعتِ جلالتها أخيرًا بأن تعتزل ؟"
فردت كلاريون وهي تفرد ملاحظاتها على الطاولة: "لا يبدو الأمر وكأن..."
لكن قبل أن يكمل عبارته، انفتحت الأبواب لِتدخُل إلفينا.
دخلت في دوّامة من غبار الجنيات وتنانير شفافة، فوقف الوزراء جميعًا، وهم يهمسون "جلالتك" بتناغم.
لكنها لم تتوقف للتحية، بل توجهت مباشرة إلى الطرف الآخر من الطاولة وجلست. ثم وجّهت إلى كلاريون نظرة منتظرة—لتدخل صلب الموضوع إذن.
قالت كلاريون بصوت تلعثم قليلا "أعلن افتتاح هذه الجلسة" ، تابعت بعد صفت حلقها: "سنبدأ بتقارير الوزراء. وزيرة الصيف، هل من جديد لديكِ؟"
ردّت أوريليا بفتور: "نحن على وشك الانتقال إلى الفصل الجديد. ليس لدي الكثير لأبلغك به سوى تتويجك."
لم تقل إلفينا شيئًا، لكنها بدا عليها الذهول. حاولت كلاريون تجاهل ذلك، وإلا فستضطر للاعتراف بذلك الخوف الصامت الذي يسكنها: أن إلفينا لا تثق بقدرتها على حمل مسؤولية الحكم.
تابعت أوريليا: "التحضيرات تسير كما هو مخطط. جمعنا تقريبًا كل ضوء الشمس الذي نحتاجه، وحددنا المكان المثالي. وحين يتوفر لكِ وقت، يا صاحبة السمو، سأطلب منكِ الحضور للموافقة عليه."
وبنغمتها الدافئة المترنّحة، وصفت أوريليا المشاريع الأخرى التي عملت عليها جنيات الصيف خلال الأسبوع الماضي. وبنهاية حديثها، كانت إيريس تكاد ترتجف من حماس يصعب احتواؤه.
"ننتقل إلى وزيرة الربيع..."
قالت إيريس بفرحة واضحة: "سعيدة جدًا لسؤالك، يا صاحبة السمو. مواهبي في الحديقة تعمل بنشاط على تنسيقات الزهور، لكن هناك أمورًا صغيرة أرغب في توضيحها..."
اخرجت خمس بطاقات من تحت الطاولة، واخدت رتبتها في صفٍ منسّق فوقها بينما يراقبها راون بصمت مندهش
قالت : "حدثيني عن الألوان... ما رأيك بها ؟ يمكننا أيضًا أن نتجه نحو أسلوب مختلف تمامًا و..."
شعرت كلاريون ببعض الإرباك. "أثق بذوقكِ، يا وزيرة. أنا متأكدة أنها ستكون رائعة."
قالا إيريس : "بلا شك ستكون كذلك.. ، لكن لا يزال هناك أمر اشكال قطرات الندى... مواهب الماء لدينا يُجرون تجارب على التصاميم. بالطبع، لا يمكنني إحضارها إلى هنا، لكن ربما قريبًا، تزورين ساحة الربيع، وسنراجع التفاصيل معًا."
قالت كلاريون: "أتطلع لذلك"، وكانت تعلم أنها تعني ذلك فعلًا. "حتى وإن لم تكن تملك عينا فنية مثل إيريس، فإن حماسها كان مُعديًا بحق.
كلاريون : "ماذا عنك يا وزير الخريف...؟"
قال راون بنبرة آسفة: "ليس لدي ما أضيفه في الوقت الراهن."
وكان ذلك مفهومًا؛ الخريف لن يصل إلا بعد أشهر، إلا أن التحضيرات لتغير بين المواسم تتطلب تنسيقًا وجهدًا بالغين.
تابع : " لكن يمكنني التكلم عن تتوجيك ... "قبل أن يتمكن من الإفصاح عن ذلك، تنهدت إيريس بصوت مسموع.
قالت: "آه، صحيح، أحتاج لاستعارة بعض من جنيات الرحلات السريعة الخاصة بك."
رد روان وهو يلمس ذقنه، وقد تسللت نغمة ساخرة إلى صوته: "وما الموضوع مرةً أخرى؟"
"اريد ان يحضروا البتلات إلى... آه!" رفعت إيريس يديها مستسلمةً. "اسمع، إن لم تكن تستطيع تقدير رؤيتي الفنية..."
قاطعتها أوريليا قائلة: "وبما أننا نتحدث عن ذلك، يمكنني الاستفادة من بعض مواهبك ايضا يا وزير الخريف ، إذا لم تكن قد شغّلتهم جميعًا بالفعل."
تأمل راون وقال: " لست مقتنعًا أنه يمكنني الاستغناء عنهم."
وبينما انزلق الثلاثة في حديث جانبي بعيدٍ عن أصل الاجتماع، وجهت إلفينا نظرةً صامتة إلى كلاريون من الطرف الآخر للطاولة. فقالت كلاريون، وقد أدركت دورها في استعادة النظام: "حسنًا..."
نظّمت أفكارها، ثم قالت بنبرة أكثر لطفًا مما قصدت: "عذرًا، هل لي بالكلمة؟"
ساد الصمت، والتفتت إليها جميع الأنظار.
تابعت قائلة ، مصرّة على ألا تفقد هدوء أعصابها، : "بالتأكيد يمكننا تنظيم جدول يناسب الجميع. ربما يمكن لوزير الخريف تخصيص بعض الجنيات ليوم واحد في الأسبوع...؟"
نظر راون إلى إلفينا وكأنه يسعى للحصول على موافقتها، فاكتفت بإشارة غامضة من يدها، وكأنها تقول: كما تشاء.
حينها بدا راوان راضيًا، فأومأ بالموافقة.
لم تستطع كلاريون منع نفسها من الابتسام. لعلها حققت انتصارًا صغيرًا: حلاً لمشكلة طُرحت عليها.
لكن، قبل أن تتابع الاجتماع، دخلت الغرفة جنيّة استكشاف من الأعلى.
قفز الخمسة في دهشة.
كادت المستكشفة ترتطم بالطاولة، لكنها لم تهتم، ولوّحت لإلفينا بينما كانت تكافح لتنظيم تنفسها. وكأن شيئًا ما قد تبعها إلى هنا.
رمقت كلاريون أرتميس بنظرة؛ وكان في وجهها مزيجٌ من الفضول والقلق، لكنها لم تتحرك من مكانها.
وقفت إلفينا، متقمصةً مجددًا دور الملكة. وسالت: "ما الأمر؟"
قالت المستكشفة وهي تلهث: "أعتذر عن المقاطعة، يا جلالتك، ولكن قبيل الفجر، شوهد وحش في أرض الجنيات."
ساد صمتٌ جليدي أرجاء القاعة.
تكلمت إيريس أولاً، وفي صوتها نبرة من الحيرة: "وحش؟ مثل صقر مثلاً، أو..."
"لا، يا وزيرة"، ردت المستكشفة بجديّة، "وحش بحق. لا أعرف ماذا أسميه. لقد عبر من الشتاء إلى الربيع."
وحش؟ من الشتاء؟ لم تعرف كلاريون شيئًا كهذا. الجنيات والطيور وبعض الحيوانات هي ما عرفت من قاطني الشتاء، لكن وحوش؟!!!
حين نظرت إلى إلفينا، لم تبدُ الملكة مضطربة. لكن هذا متوقع منها، فهي تحفظ رباطة جأشها في كل موقف، مهما كان خطرًا. لطالما أثارت دهشة كلاريون بهذه القوة—وأحيانًا حتى شعرت ببعض الحسد. فملكة أرض الجنيات الحقيقية لا تظهر أي تصدّع.
سأل روان بحذر. : "وكيف كان شكله؟"
قالت المستكشفة: "يصعب الوصف، يا سيدي. شيء يشبه الثعلب، لكنه لا يشبه أي ثعلب رأيته من قبل. بدا وكأن له بريقًا، أو ربما ظلًا..."
ثم سكتت، وقد شحب وجهها. "تبعناه قدر استطاعتنا، لكننا فقدنا أثره عند شروق الشمس."
قالت إلفينا بهدوء: "استدعوا القائدة فورًا. أريد رؤيتها هنا."
وبالطمأنينة التي يبعثها تنفيذ الأوامر، استعادت المستكشفة بعض توازنها.
وقالت وهي تستعيد وقفتها الرسمية: "نعم، يا جلالتك."
تابعت إلفينا: "وبعد ذلك، خذي وحدتك وتأكدي من دخول جميع المواطنين إلى الداخل."
تابعت وقد ظهرت تجاعيد القلق على جبينها. ، "حتى نعرف طبيعة التهديد، لا يخرج أحد."
"أمر، يا جلالتك."
تحفزت أرتميس، واخدت يدها تتحرك نحو سيفها المعلّق على خاصرتها. قالت: "يا جلالتك، إن كان بوسعي أن..."
قاطعته إلفينا ببرود: "لن تتخلي عن موقعك بجانب الأميرة."
شعرت كلاريون بوخز من التعاطف تجاه أرتميس الذي بدت وكأنها تذبل. انحنت برأسها وقالت: "بالطبع لا."
أشارت إلفينا بيدها إلى المستكشفة الأخرى: "يمكنكِ الانصراف. أما البقية، فالجلسة منتهية. ومن أجل السلامة، لا يغادر أحد القصر حتى إشعار آخر."
قالت إيريس، معترضة: "لكن يا جلالتك، لا يمكنني البقاء هنا. ساتوجه الى ارض الربيع و ..."
لكن وجه إلفينا لم يكن قابلاً للنقاش. قالت: "الكشافة سيتولون الأمر."
قالت إيريس: "نعم، بالطبع"، لكن كلاريون لمحت نبرة القلق في صوتها. بينما وضعت أوريليا يدًا حازمة على كتف أيريس وضغطت بلطف.
ترددت الأصوات الخافتة وهمس الأوراق في المكان. تابعت كلاريون الوزراء وهم يغادرون، والخوف يتسلل إلى صدرها كجليدٍ عالق. وحش؟ كيف يمكن لشيء كهذا أن يكون حقيقيًا؟
قالت إلفينا، بصوت منهك: "أنتِ أيضًا، كلاريون. توجهي إلى غرفتك."
اشتعل الغضب في داخلها. هل هذا كل شيء؟ تُعامل كطفلة، وكأنها لا تستحق أن تُؤخذ على محمل الجد؟ كان هذا الاجتماع فرصتها لإثبات قدرتها، لكنه خرج عن المسار. والآن، تُستبعد من أمر شديد الأهمية؟
قالت بتحدٍ: "أنا أستطيع أن أساعد."
ردت إلفينا دون أن ترف لها عين: "لا يمكنكِ. هذا أمر لا يعنيكِ."
كان من المفترض أن يُحطّمها انكشاف أسوأ مخاوفها: أن إلفينا لا تحتاجها.
لكن بدلاً من ذلك، نبتت بذرة الغضب في صدرها وتفتحت بكامل عنفوانها.
راحت تحلّق بسرعة في أرجاء الغرفة، وتوهّجها يزداد ليغمر الجدران .
"كيف لا يُقلقني ذلك؟ ساكون حاكمة ارض الجنيات بعد شهر ، اليس كذلك ؟!"
وأخيرًا، نظرت إليها إلفينا... نظرة حقيقية. واضح أن كلاريون فاجأتها، إذ لم تردّ لعدة لحظات طويلة.
قالت : "أريد فقط أن أخبركِ بألّا تقلقي من هذا."
لكن كلاريون لم تستطع تقبّل الامر . قالت : "أليس من المفترض أن أتعلم كيف أتعامل مع الأزمات؟"
قالت إلفينا بنبرة حاسمة ولكن هادئة: "لا يزال لديكِ وقت لتتعلمي. ولكن ليس أثناء الأزمة. ثقي بي، أنا أتحكم بالأمور." ثم وضعت يديها على كتفي كلاريون، وكانت تلك اللمسة أثقل مما توقعت، وكأنها تغرق مقاومة كلاريون بلحظة صدمة خافتة.
نادراً ما كانت إلفينا تلمسها، ونادراً ما أظهرت أي نوع من الحنان تجاهها.
ومع ذلك، لم تستطع كلاريون أن تنسى النظرة التي وجهتها لها إلفينا يوم ظهرت من النجم. عندما ساعدتها على الخروج من الحفرة، ثم احتضنت وجهها كما لو كانت ترى فيه شيئًا بين الدهشة والاعتراف الرهيب... شيء أضاء عينيها بحزنٍ غريب لم تستطع كلاريون فهمه، ولا حتى تسميته.
وقبل أن ترد..... دخلت قائدة الكشافة، "نايتشايد" ، محلّقة في الجو.
كانت ترتدي زيّها الكامل: صفيحة صدرية ، ودرع من لحاء الشجر مثبت على ساعديها وساقيها، كلها تلمع بحدة .
كانت تحمل ايضا رمحًا في يدها، وسهامًا من عشبة النشار في جعبتها. أما شعرها الأشقر، فقد جمّعته في كعكة صارمة عند مؤخرة عنقها، وقد سمّرته الشمس بلونها الذهبي.
قالت وهي تضع قبضتها على صدرها للتحية : "يا جلالتك، يا سمو الأميرة ، علينا الحديث عن اللوجستيات."
قالت إلفينا: "علينا ذلك فعلًا. كلاريون..."
"من فضلك، دعيني أبقى"، قالت كلاريون بإصرار. "لن أقاطع أحدًا."
ردت إلفينا بسرعة، وبحدة غير معتادة: "مستحيل. اخرجي."
حدّقت بها كلاريون، مذهولة. نعم، سبق أن شعرت أن إلفينا ضاقت بها أو خاب أملها، لكن لم تكن بهذه الفظاظة من قبل.
دون أن تضيف شيئًا، استدارت نحو قائدة الكشافة ، وبدأت تتحدث إليها بصوت منخفض.
كلاريون، مرتجفة بالغضب والمهانة، أدركت أن النقاش قد انتهى.
كانت إلفينا قد وعدتها بتعليمها كل ما تحتاجه، وأي وسيلة أنسب للتعلم من المشاهدة؟ لكن من الواضح أن رأيها لم يكن محل اعتبار، ولا موضع ترحيب.
راودها شعور طفولي بأن تلصق أذنها خلف الباب، كمن طُرد إلى فراشه مبكرًا.
لقد أقسمت أن تكون أفضل، أن تتصرف بما يليق بدورها. ومع ذلك...
قالت أرتميس بصوت خافت، ممتزج بشيء من الشفقة التي لم تحاول إخفاءها: "تفضلي، يا سمو الأميرة." وساعدتها على الخروج من غرفة المجلس إلى غرفتها، حتى بدت كأنها تحملها، وكلاريون كانت شديدة الانكسار لتُبدي أي اعتراض.
----------
من نافذت غرفتها ، كان يمكنها أن ترى الفوضى المنظّمة التي اجتاحت أرض الجنيات.
كانت الأبواق تُعلِن الإنذار من أبراج المراقبة فوق قمم الصنوبر، وغبار الجنيات يتطاير في السماء بينما عاد الجميع إلى منازلهم، والكشافة يحلقون فوق الأشجار، أقواسهم مشدودة، وأعينهم مترقبة.
انقبض قلب كلاريون من القلق. شعبها يعاني. وبترا، على الأرجح، ترتجف رعبًا... وهذا ما كان يؤلمها أكثر من أي شيء.
كانت إلفينا قد قالت لها: "يجب أن تساعدي على نطاق واسع." لكنها لا تستطيع ذلك، ليس وهي محتجزة في غرفتها، وبالتأكيد ليس وإلفينا تمنعها من أداء واجباتها.
ملكة أرض الجنيات لا تجلس مكتوفة الأيدي بينما لا يزال هناك عمل ينتظر الإنجاز.
لم نكن كلاريون يومًا كاملة، وهي تعلم ذلك. لكن كيف لها أن تكون كذلك بينما أوامر إلفينا تتناقض فيما بينها؟ عليها أن تختار إحداها. والآن، مع اقتراب مراسم التتويج، لا يمكنها أن ترضى باللا شيء.
لن يضر إن خرجت للبحث عن الوحش بنفسها، صحيح؟
إن عادت بشيء مفيد، فلن تُستبعد بعد الآن. وربما، ربما فقط، يمكنها أن تقنع نفسها بأن تمتالكها موهبة الحكم لم يكن خطأً فادحًا.
لا شك، في ظل انشغال الكشافة وإلفينا، لن يلاحظ أحد اختفاءها. عليها فقط أن تنتظر حتى حلول الليل، عندما تنتهي مناوبة أرتميس، لتنفذ خطتها.
------
ومع انحدار الساعات، راحت الشمس تغيب، والسماء تتحوّل إلى لون أحمر عميق.
وقبيل حلول الغسق، فتحت كلاريون أبواب شرفتها. وحين خطت خارجًا، تساقطت عليها الظلال بثقل، لتجعل جلدها يقشعر من الحذر. هبّت رياح جعلت كل غصن يرتعش، وفي عمق ذلك الصوت، أقسمت أنها سمعت نداء ثعلب بعيد.
في مكانٍ ما هناك، كان الوحش يختبئ.
وبمجرد أن خلقت ذلك الخاطر في ذهنها، سقط بصرها على الجبال.
كان شحوب الغسق قد حوّلها إلى شيء صارم، متجهم. و بدت لها مجددا وكأنها تنظر إليها من زواياها—نظرة غير مباشرة، شبه مترقّبة.
لم تستطع كلاريون أن تعرف إن كان ذلك يثير الحماسة في صدرها أم يزرع الخوف.
لكنها، بتلك الجرأة التي جمعتها من بين الشكوك، انطلقت في الطيران نحو وادي الربيع، إلى الحدود التي يلتقي فيها الربيع بالشتاء.
يتبع.......
تعليقات
إرسال تعليق