رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل العاشر | مترجم

 بعد ثلاثة أيام طويلة من الانتظار، وصلتها رسالة من بيترا.  

حدث ذلك بينما كانت كلاريون مستلقية في سريرها، مستيقظة مرة أخرى قبل أن تشرق الشمس تمامًا.


كان السماء خلف نافذتها لوحة مخملية من البنفسجي، منثورة بنجوم تتلاشى ببطء.  

ومن مكانها، استطاعت أن ترى خيطًا رقيقًا من قمم الجبال البيضاء، وكأنها تتجسس عليها من بعيد.  

عذاب صغير، حين لا يشغل بالها سوى فكرة أنها ستكون قريبًا تحت ظل تلك القمم، وأنها وميلوري سيقفان أخيرًا على الجانب ذاته من الحدود.  

ربما حينها، ستتمكن من إقناع نفسها أن كل هذا... حقيقي.


ثم جاء طرق خفيف على باب شرفتها.


ارتفع التوتر في صدرها كنداء إنذار، اجتاحها كعاصفة مفاجئة.  

في هذا الوقت المبكر، وجود أحد عند بابها لا يبشر بخير.  

هجوم آخر؟ أو...


لكن ما إن اعتادت عيناها على الظلام، حتى تلاشى الخوف تمامًا.  

وحلّ مكانه شيء بين الانزعاج والارتياح الخالص، حين رأت أرتميس واقفة هناك.  

كانت حارستها تقف على الشرفة، يحيط بها وهجها الخاص، يرسم ملامحها في الظلال.  

دفنت كلاريون راحتيها في عينيها المرهقتين.  

ماذا يمكن أن تريد منها في هذا الوقت المبكر؟


نادتها أرتميس مرة أخرى، هذه المرة بنبرة أكثر وضوحًا.


أزاحت كلاريون الغطاء عن نفسها، وعبرت الغرفة بخطوات سريعة.  

فتحت الباب ، فاندفعت نسمة هواء منعشة، ومعها صوت خافت لحركة الجنيات وهن يجهزن حصص الصباح.  

حاولت أن تبدو متماسكة وهي تنظر إلى أرتميس، رغم أنها كانت تدرك أن مظهرها لا يساعد كثيرًا.  

كانت لا تزال ترتدي ثوب النوم، وشعرها منسدلًا حتى منتصف ظهرها.  

"صباح الخير."


"صباح النور." ردّت أرتميس بانضباطها المعتاد.  

"آسفة لإزعاجك في هذا الوقت، لكنني ظننت أنكِ سترغبين في رؤية هذا."


كانت تحمل لفافة رقيقة من الورق، مربوطة بخيط أخضر.  

تناولتها كلاريون من يدها، وفردت الورقة.  

وبمجرد أن وقعت عيناها عليها، عرفت الخط فورًا...  إنه خط بيترا !

كانت الورقة تحمل آثارًا واضحة من السخام والزيت، وشيئًا آخر تأمل كلاريون بصدق ألا يكون دمًا.  

الخياطة لا يمكن أن تكون بهذه الخطورة، حتى بالنسبة لمن يفتقر إلى الخبرة، أليس كذلك؟  

أما الرسالة نفسها، فكانت قصيرة بشكل غير معتاد، ولم تحمل توقيعًا.


كل ما كُتب فيها كان:  

هذا هو.


توقّف قلب كلاريون لوهلة، وضمّت اللفافة إلى صدرها.  

الحماسة التي كانت تتراكم في داخلها منذ أيام اجتاحتها دفعة واحدة.  

بعد سنوات من التحديق في تلك الحدود، بعد سنوات من التساؤل، قد تكون على وشك الذهاب إلى الشتاء... الليلة.  

احتاجت إلى الكثير من ضبط النفس كي لا تبدأ بالتجوال في غرفتها.  

أرتميس بالكاد ستعرف كيف تتعامل معها.


اكتفت بأن تبتسم لها، لكنها وجدت أرتميس تحدّق بها بنظرة ناعمة على نحو غريب.  

وحين أدركت أن كلاريون لاحظت ذلك، أعادت ترتيب ملامحها لتبدو كالصورة المثالية للاتزان.  

أرتميس : "هل هناك شيء جيد؟"


كلاريون : "يمكننا أن نذهب لاستلام معطفي."


"آه."  

تجهمت أرتميس، من الواضح أنها لا تزال غير مرتاحة لفكرة السماح لها بالتجول في الشتاء.  

"خبر جيد، بلا شك."


وبعد لحظة، خطر شيء في بال كلاريون.  

نظرت إلى الرسالة بين يديها.


"من أين حصلتِ على هذه؟"


ارتفع لون خافت إلى عنق أرتميس.  

"الحرفية أعطتني إياها."


قالت كلاريون، محاولة أن تبقي نبرتها عادية : "لم أكن أعلم أنكِ تقضين وقتًا في ركن الصناع،" 

كانت أرتميس وبيترا تعرفان بعضهما منذ سنوات عبر كلاريون، لكن، حسب علمها—ولخيبة أملها، نظرًا لوضوح مشاعر بيترا تجاهها—لم يقضيا وقتًا معًا دون وجودها.  

في الواقع، كان الأمر جديدًا تمامًا.


ردّت أرتميس بسرعة : "تقابلنا صدفة،" .  

تابعت : "أعني، تقابلنا... بالقرب."


"كيف؟"  

واصلت كلاريون، غير قادرة على إخفاء فضولها :

"ولماذا؟"


"قبل أن أعود إلى المنزل، أقوم بجولة خاصة بي بحثًا عن الكوابيس."


أومأت كلاريون.  

"هل وجدتِ شيئًا عند منزله؟"


"لا، أنا..."  

بدت أرتميس متوترة الآن.  

مررت يدها في شعرها المحلوق.  

"أعتقد أنني كنت فقط فضولية بشأن ما تفعله.  

إنه شيء قد يسهل عمل الكشافة كثيرًا."


راضية، ابتسمت كلاريون ببراءة، وطيّت الرسالة.  

"أفهم. حسنًا، يمكننا أن نلقي نظرة أخرى لاحقًا اليوم."


"كما تشائين، جلالتك."  

نظرت إليها أرتميس بنظرة حادة، كادت تجعل كلاريون تضحك.  

—ربما يجب أن تمازحها أكثر. كانت هدفًا سهلًا جدًا.  

"يمكننا الذهاب بعد اجتماعك مع وزيرة الربيع، والذي سيبدأ بعد ساعة، إن لم تكوني قد نسيتِ."


تأوهت كلاريون.  

لقد كادت تنسى.  

آمل أن لا تُبقيها إيريس طويلًا.


فهي الوحيدة التي تقف بين كلاريون... والشتاء.


        -------------------------------------------


حين أصبحت كلاريون جاهزة، انطلقت مع أرتميس نحو وادي الربيع.  

ورغم أنها كانت تشعر بانتماء أكبر إلى الصيف، فإن الربيع لم يفشل يومًا في إبهارها.  

كان موطن مواهب الحدائق في جوف الجنيات، الجنيات القادرات على جعل الزهور تتفتح.  

وكانت ترى آثارهن في كل مكان تنظر إليه:  

أشجار تتدلى منها ثمار الحمضيات، فورسيثيا ذهبية، رذاذات رقيقة من الوستارية، وفراولة برية تنضج تحت بقع الشمس الدافئة.  

وأثناء تحليقهن عبر الغابة، لمحت كلاريون منازل الجنيات متشبثة بالأغصان، جميعها بأسقف من أزهار الفوشيا وأبواق الزنبق.


وصلتا إلى ساحة اخيراً ، قلب وادي الربيع.  

في هذا الوقت المبكر، كانت خيوط ضبابية من الندى تطوف فوق بحر "نيڤر"، وتملأ الساحة بلمسة حالمة.  

شجرتان ضخمتان من الكرز تؤطران منظر الماء، وفي المنتصف، حجر مغطى بالطحالب تنبت منه زهرة واحدة : زهرة الخلود .  

بتلاتها البيضاء الناعمة كانت مطوية حول نفسها، كأجنحة جنية نائمة.  

لا تتفتح إلا في يوم الاعتدال الربيعي، حين يحين موعد وصول الربيع إلى البرّ الرئيسي.  

وفي كل عام، تجتمع الجنيات في هذه الساحة لتشهد الملكة آخر مراجعة لتحضيرات الربيع.  

ورغم الأيام الطويلة من العمل، تبقى بعضهن مستيقظات حتى الفجر، فقط لمشاهدة الزهرة وهي تتفتح مع شروق الشمس.  

وكانت كلاريون تأمل أن ترى ذلك بنفسها يومًا ما.


كانت إيريس تنتظرهن عند زهرة الخلود، تغمرها أشعة الشمس.  

كانت ترتدي اليوم فستانًا من زهور الزعفران، بأكمام طويلة على شكل أجراس، لا يظهر منها سوى أطراف أصابعها.  

شعرها انساب على ظهرها كصفحة من الماء الداكن.  

وجهها، الذي بدا أكثر تأملًا من المعتاد، أشرق حين رآهن.


وبعد تبادل التحيات، تنهدت إيريس وقالت:  

"كنت آمل أن أُريكِ شيئًا أكثر اليوم. شكرًا لقدومكِ على أي حال."


عبست كلاريون.  

"ماذا تقصدين؟"


فتحت إيريس شفتيها بدهشة.  

"ألم تخبركِ جلالتها؟"


هبط قلب كلاريون.  

"تخبرني بماذا؟"


ترددت إيريس.  

"ربما من الأسهل أن أُريكِ. تعالي."


بخفة جناحيها ورشة من غبار الجنيات، انطلقت إيريس في الهواء.  

قادتهن إلى عمق وادي الربيع، حتى وصلن إلى حقل مفتوح.  

وما رأته كلاريون جعل الرعب يتسلل إلى جسدها.


خط من الذبول شقّ المرج، متجهًا نحو الشتاء.  

أو ربما بدقة أكثر: من الشتاء.  

ما مرّ من هنا بدا وكأنه استنزف اللون من كل شيء.  

زهور ذابلة، وأعشاب يابسة، وبقايا ممزقة.  

حتى من مكانها، وصلها رائحة خفيفة من التعفن.


"جاء الكشافة هذا الصباح لتقييم الأضرار."  

كانت إيريس تعصر يديها بقلق.  

"لم يُصب أحد بأذى. لا أحد سوى الزهور، على الأقل."

استطاعت كلاريون أن ترى كم يؤلمها موت الزهور.  

فمعظم جنيات الربيع، في النهاية، لديهن قدرة على التواصل معها.  

نظرت إلى أرتميس، تأمل أن تكون رسالتها واضحة:  

"هل كنتِ تعرفين بهذا؟"


هزّت أرتميس رأسها بالنفي.


أمر آخر لم ترَ إلفينا أنه يستحق أن تخبرها به.  

وتذكير جديد بمدى إلحاح الحاجة إلى أن تجد هي وميلوري طريقة لتدمير الكوابيس.


قالت كلاريون بهدوء :"أنا مرتاحة جدًا لأن أحدًا لم يُصب بأذى،" .  

تابعت : "لكنني أشعر بالحزن على الريف."


قالت إيريس، تحاول أن تبدو أكثر تفاؤلًا مما تشعر به : "أنتِ لطيفة جدًا لتقولي ذلك، جلالتك،" .  

تابعت : "أنا آسفة لأن بعض ما عملنا عليه من أجل تتويجك قد تضرر ، لكن جلالتها ستتولى أمر الكوابيس، وسنصلح كل شيء في وقت قصير.  

وفي هذه الأثناء، دعيني أُريكِ ما أنجزته مواهب الماء.ستعجبكِ كثيرًا."


لم يكن لدى كلاريون وقت لترد، فقد اندفعت إيريس في اتجاه آخر.  

فعلت كلاريون ما بوسعها لتلحق بها ، تمن لو فقط  لديها هذا القدر من الطاقة في هذا الوقت المبكر !


قادت إيريس كلاريون لمسافة قصيرة، ثم اندفعت مجددًا عبر مظلة الأشجار.  

هبطتا على ضفة نهر، تمامًا في اللحظة التي مرّت فيها مجموعة من اليعسوب، تلمع أجنحتها بألوان قوس قزح.  

وبينما استعادت كلاريون توازنها، استمعت إلى أصوات مواهب الماء وهي تعمل:  

خرير الماء، نقيق الضفادع، طنين الحشرات، وضحكات الجنيات التي كانت تتلألأ كجدول يتدفق فوق الصخور.

لطالما أحبت كلاريون مشاهدة مواهب الماء.  

بعضهن كن يطفن في النهر على قوارب مصنوعة من لحاء الشجر ، يشجعن أسماك الذهب التي تسبح تحتهن.  

وأخريات كن يجلسن على جذوع نصف مغمورة، تحيط بهن ستائر من القصب.  

وأخريات كن يقفزن على سطح الماء، يتركن خلفهن تموجات صغيرة بالكاد تُرى.  

كل ذلك جعل كلاريون تندهش وتشعر بالتوتر في آنٍ واحد.  

فالجنيات لا يستطعن السباحة؛ أجنحتهن تصبح ثقيلة جدًا عندما تبتل.  

لكن مواهب الماء كن شجاعات ومبتهجات، ويبدين مرتاحات تمامًا.

على الأقل، حتى لاحظن وجودها.  

فما إن مرّت، حتى خيّم الصمت فجأة.  

ترددت كلاريون بين أن تبتسم لتشجيعهن أو أن تُشيح بنظرها حتى لا تشعر بالإحراج.


قالت إيريس بسعادة : "ها نحن ذا!" .


استغرق الأمر لحظة حتى تدرك كلاريون ما تنظر إليه.  

كنّ يقفن أمام شبكة عنكبوتية ضخمة معلّقة على أغصان الأشجار.  

كانت مغطاة بقطرات ندى كثيرة، وكل قطرة مصبوغة بلون.  

أدركت أنها فسيفساء، مصممة لتبدو مثلها تمامًا.  

وعندما تسطع الشمس عليها، تنكسر أشعتها عبر القطرات، وتنثر ألوانًا جميلة على أرض الغابة.


سألت إيريس : "ما رأيكِ؟" .


"إنها رائعة،" قالتها كلاريون بهدوء، وكانت تعني ذلك فعلًا.  

رؤية نفسها مرسومة بهذه العناية أثارت فيها شعورًا لم تستطع وصفه.


شعرت وكأن الجميع خلفها تنفسوا الصعداء.  

ثم عادت أصوات الماء والضحك من جديد.


صفّقت إيريس بفرح.  

"رائع! سيكون تتويجكِ مذهلًا، جلالتكِ. فقط انتظري حتى..."


لكن صوت إيريس بدأ يتلاشى في ذهن كلاريون، وهي تحدق في صورتها، نسخة أكثر ملكية واتزانًا مما تعرفه عن نفسها.  

لم تستطع التركيز على أي من الأشياء الجميلة التي كانت إيريس تصفها.  

فالتتويج، بطريقة ما، بدا غير مهم أمام التهديد الذي يواجه "جوف الجنيات".  

رغم شوقها للاستمتاع بمواهب رعاياها، ورغم رغبتها في تصديق إلفينا،  

كل ما فكرت فيه هو كم يبدو كل شيء هشًا.  

كل ما فكرت فيه هو المعطف الشتوي الذي ينتظرها في زاوية منزل بيترا ،   

وكيف أنها ستعبر إلى الشتاء... الليلة.


"جلالتكِ؟"


انتبهت كلاريون فجأة.  

كانت إيريس تنظر إليها بقلق حقيقي، وشيء من خيبة الأمل.  

شعرت كلاريون بالذنب لأنها شردت بهذا الشكل الواضح.  

من الواضح أن هذا الأمر كان مهمًا جدًا لإيريس.


قالت كلاريون : "أنا آسفة جدًا، يا وزيرة،" .  

"هل سألتِني شيئًا؟"


عقدت إيريس ذراعيها ونظرت إليها.  

"هل هناك شيء يشغلكِ؟"


قالت كلاريون بتردد "بعض الأمور،" .  

تابعت : "هناك الكثير من التحضيرات للتتويج... ، وأحيانًا، لا أشعر أنني جاهزة."

ارتسمت الدهشة على وجه إيريس قبل أن تبتسم بلطف.  

"جلالتكِ، هل أنتِ متوترة؟"


تقلّص وجه كلاريون.  

"قليلاً."


"حقًا؟" بدت إيريس متفاجئة بصدق، وربما مسرورة بعض الشيء.  

"ما كنت لأتوقع ذلك. تبدين دائمًا هادئة ومتزنة."


قالت كلاريون بصوت خافت :"هذا مجرد وهم متقن،" .


"من الطبيعي أن تشعري بالتوتر."  

لمست إيريس ذقنها برفق.  

"لكنّكِ فعلاً تبدين مرهقة. هل تنامين جيدًا؟"


—على الأرجح لا.  

"أمم، أنا..."


أضاء وجه إيريس فجأة.  

"أعرف تمامًا ما تحتاجينه. سأرسل معكِ شاي عشبة الجمجمة."


فاجأت كلاريون حيويتها وكرمها.  

"سيكون ذلك رائعًا. شكرًا لكِ."


قالت إيريس : "على الرحب والسعة،" .  

"الشاي يصلح معظم الأمور.  لكن إن كنتِ تقبلين نصيحة، ففكّري بالأمر بهذه الطريقة:  أنتِ مثل بصيلة الزهرة."


—لم يبدو ذلك كمجاملة.  

تقلّصت أنف كلاريون.  

"كيف ذلك؟"

بلفّة خفيفة من إصبعها، ظهرت بصيلة زهرة صغيرة في يد إيريس، تتلألأ بغبار الجنيات.  

"في جوف الجنيات ، تتفتح الزهور عندما نطلب منها ذلك.  لكن في البرّ الرئيسي، تُزرع هذه الزهور في الخريف، قبل أن تتجمّد الأرض. يبدو وكأنها ستموت، لكنها تبقى ساكنة طوال الشتاء. ثم، بمجرد أن يأتي الربيع..."  

انبثقت زهور الهايسنث من الأرض حولها، بألوان الأبيض، والوردي الزاهي، والبنفسجي الناعم.  

أطلقت رائحة خضراء رطبة، عذبة كروح الربيع نفسها.

قالت إيريس بهدوء : "الربيع كله عن التجدد،" .  

"عندما يبدو كل شيء مظلمًا، تكون زهور البصيلة شرارات أمل.  

الأمور تحتاج وقتًا لتزهر.  

فقط كوني صبورة ومُحبة."  

وبعد لحظة تأمل، أشارت إلى كلاريون.  

"فكوني لطيفة مع نفسك.  

ستصبحين ما يجب أن تكونيه، أعدكِ."


للحظة، شعرت كلاريون بالذهول.  

"شكرًا لكِ، يا وزيرة. حقًا."


قالت بلطف : "في أي وقت،" .  


            -------------------


بحلول منتصف الظهيرة، وصلت كلاريون وأرتميس إلى كوخ بترا المنعزل.  

وكما توقعت، لم تُجب على طرق الباب، لكن كلاريون رأت وهجًا برتقاليًا خافتًا من داخل الورشة عبر النوافذ الملطخة بالندى.


فتحت أرتميس الباب ونادت، "لقد وصلنا."


كالعادة، كانت مشاريع بترا تغطي كل سطح، ومعظم الأرضية.  

لكن الغريب أن أدوات الحدادة كانت ساكنة، تلمع بخفوت تحت ضوء النار.  

اليوم، بدت ورشة بترا وكأنها تخص خياطة.


كلاريون، وهي تتقدم داخل الغرفة، اضطرت لتفادي الإبر والمقصات الطائرة.  

لمست بكرة خيط، فبدأت تطير ببطء عبر الغرفة، وهي تنفكّ أثناء تحليقها.  

كل زاوية كانت تعج بالأقمشة الملونة والأزرار.


كانت بترا تقف في مركز هذه العاصفة التي خلقتها، تعبث بمعطف لفّته حول كتفين معدنيين لفستان.  

وكانت تبدو مرهقة تمامًا مثل كلاريون.

لم تكن كلاريون لتتفاجأ لو علمت أن بترا لم تنم منذ بدأت هذا المشروع.  

قول إنها "مصمّمة" لا يكفي لوصف ما كانت عليه.


سألتها كلاريون بتردد : "هل أنتِ بخير؟" .


أجابت بترا بنبرة شبه غائبة:  

"استغرق مني أيامًا لأصنع نمطًا يمكن استخدامه ولو بشكل بسيط،  

وساعات من جمع خيوط العنكبوت لأقنع باتش أن يعلّمني الغرز الأساسية.  

لكن بعد ثلاث محاولات، نجحت. أخيرًا."


نظرت كلاريون خلف كتفها، ولم تستطع منع نفسها من إطلاق صوت دهشة خافت.  

المعطف لم يكن "قابلًا للاستخدام" فحسب، بل كان مذهلًا.  

كان عليها أن تعرف أن بترا لا تصنع شيئًا أقل من رائع.  

نسيج ذهبي سميك، يتلألأ بخفة بغبار الجنيات،  

وحواف من الفرو الأبيض تُزيّن القبعة وأطراف الأكمام.


قالت كلاريون : "إنه جميل،" 

اضافت : "سيؤدي الغرض."  

ورغم نبرتها المتحفظة، بدت بترا فخورة.  

"جربيه."


سحبت بترا المعطف من الفستان وناولته لها.  

أدخلت كلاريون ذراعيها في الأكمام، ولفّته حول كتفيها،  

ثم كادت تضحك.  

كان ضخمًا جدًا، حتى أنها كادت تختنق في القماش،  

لكن على الأقل، جناحاها كانا مرتاحين.


نظرت بترا إليها بقلق، وهي تشدّ على طيات المعطف.  

"الحجم كان فظيعًا.  أدركت شلك متأخرة ."


ضحكت كلاريون بخفة.  

"المعطف دافئ. وهذا كل ما أحتاجه."


بيترا : " ربما لو أنني..." 


"إنه مثالي."  

أمسكت كلاريون بيديها لتطمئنها.  

"شكرًا لكِ. حقًا."


قالت بترا بحدة : "لا داعي للشكر،" .


كلاريون : "لكن عليّ خلعه فورًا. الجو هنا دائمًا حار."


اعترضت بترا : "ليس حارًا لهذه الدرجة!" .  

"أوه! لدي أشياء أخرى لكِ."

 

وبينما كانت كلاريون تخلع المعطف وتضعه على ذراعها،  بدأت بترا تبحث في طاولتها.  

سقط سكين شحذ على الأرض بصوت معدني.  

وبعد لحظات، ناولتها زوجًا من القفازات والأحذية،  

ثم لمحت كلاريون شيئًا غريبًا يشبه مضارب الريشة تتدلى من تلك الاحدية .  


"ما هذه؟ للعب؟"


"لا تكوني سخيفة. هذه للوقوف."


نظرت كلاريون إليها بشك.  

"أظن أنكِ من تبدين سخيفة الآن."


قالت بترا بتعب : "إنها أحذية ثلجية ! " 

"توزّع وزنكِ على مساحة أكبر، فتمنعكِ من الغرق في الثلج.  في الواقع، لا يهم كيف تعمل!  المهم أنها ستجعل المشي على الثلج أسهل."


همست كلاريون : "مذهل ! ، ما كنت لأفكر في ذلك أبدًا."


"أعرف."  

ابتسمت بترا، وقد بدا عليها الرضا.  

لكن بعد لحظة، تلاشت ابتسامتها.


"فقط... كوني حذرة، حسنًا؟"


قالت كلاريون : "لا تقلقي، متى لم أكن حذرة؟"


نظرت إليها بترا نظرة طويلة.  

"أنتِ تعرفين أنني أحبكِ."


لم يعجب كلاريون اتجاه الحديث.  

"بالطبع أعرف."


"أنتِ أقدم صديقة لي."  

وسمعت كلاريون بوضوح ما لم يُقال:  

—الصديقة الوحيدة.


بيترا : "لطالما كنتِ الوحيدة التي تتحدث إليّ."


ابتسمت كلاريون لها.  

"أذكر أنكِ كنتِ تخافين مني."


ردّت بترا " حسنًا، أنتِ مرعبة."  

"ولم تتراجعي يومًا أمام ما يخيفكِ.  

كنتِ تجرّينني إلى أمور كثيرة كنتُ أفضل تجنّبها."


تذكّرت كلاريون تلك الأيام بحب وحنين:  

منبوذتان لا تفترقان، تركضان بحرية في أرجاء جوف الجنيات.  

نعم، تعترف أنها جرّت بترا إلى الكثير من المتاعب على مرّ السنين.  

مثل اليوم الذي أخذتا فيه أسرع فأرين وأكثرهما عنادًا من إسطبل الحرفيين، وركبتا بهما عبر الحقول بسرعة جنونية.  

أو عندما ضلّتا الطريق داخل جحر أرنب بعد أن اقترحت كلاريون أن يستكشفاه.  

أو عندما أقنعت بترا ببناء عربة تجرّها طيور الطنان، والتي كانت، كما هو متوقع، فاشلة تمامًا.


لكن بترا لم تكن في مزاج للذكريات.  

بل بدت وكأنها تخطّط لشيء ما.  

سألتها كلاريون : "إلى أين تريدين الوصول؟" .


"الآن وقد فعلت هذا من أجلك، أريدك أن تتركني خارج الأمر.  لا تخبريني بما تنوين فعله. كلما فكرت في الموضوع، ل..."  

توقفت بترا للحظة لتتماسك.

"من الأفضل لنا أن أتصرف وكأنكِ لن تقتربي من الشتاء."


—صحيح.  

كان ذلك منطقيًا.  

لكنّه كان مؤلمًا أيضًا.  

شعرت بالعزلة،  

أنها لا تستطيع الحديث عن شيء بهذه الأهمية.  

لكن اجابت : "أستطيع فعل ذلك."

بيترا : "حسنا ....."

 اضافت بعبوس :  : "أنتِ متأكدة أنك تعرفين ما تفعلينه، صح؟"


أغمضت كلاريون عينيها،  

فرأت في داخلها الحقول الربيعية المدمّرة، تحترق.  

رعاياها يسقطون من السماء، فاقدي الوعي بسبب قطرة واحدة من سمّ الكابوس.  

كانت تملك فكرة غامضة ومخيفة عمّا تواجهه،  

وفكرة أكثر غموضًا عن خطة ميلوري.  

لكن إن كان ذلك يعني حماية الشتاء،  

وإثبات أنها قادرة،  

فعليها أن تواصل السير.


ابتسمت كلاريون بأكبر قدر من الثقة استطاعت أن تبديه.  

إن كان عليها أن تكذب على بترا لاحقًا،  

فلا بأس أن تبدأ بالتدرّب الآن.  

"طبعًا أعرف.  

لا داعي للقلق أبدًا."


تعليقات