رواية أجنحة من ضوء النجوم | الفصل الثالث والعشرون | مترجم

 حين فتحت كلاريون عينيها، كان وهج المصابيح الهادئ يملأ غرفة العلاج الخاصة بها بضوء دافئ، ينساب فوق القوارير والجرار المصطفة على الرفوف. ومن خلف النافذة، كان الأفق يتلون بخطوط من الأزرق العميق والبرتقالي، مع انبلاج الشمس فوق حافة السماء.


فكرت بدهشة مضطربة : "أنا ما زلت حيّة"

لقد عاشت لتشهد شروق يوم جديد.


رغم الغطاء الذي يحتضنها، كان البرد متشبثًا بجلدها، متسللًا إلى قلبها. رفعت أصابعها بتردد لتجرب حركتها، فتنفست بارتياح حين وجدت أنها ما تزال متصلة، لم تُلتهمها عضة الصقيع.

 أزاحت البطانية قليلًا، وزفرت براحة أكبر حين رأت جناحيها يخفقان بخفوت في عتمة الفجر الأولى. كانت اللوالب الذهبية قد عادت لتجري بينهما، وإن بدا بريقها أخفت من ذي قبل.


وحين استدارت على جنبها، وقع بصرها على الرداء المسجّى فوق المنضدة الصغيرة بجانب السرير.


ميلوري.


كان مجرد ذكره أشبه بقطعة جليد تنغرس في قلبها. كلما أغمضت عينيها، أحرقتها ذكرى أجنحته الذابلة وهي تتساقط على أرضية العيادة. كان صوته، حين أخبرها بارتعاش: "لا أستطيع أن أفقدك"، مزيجًا من إخلاص ممزوج بألم ممض.


ربما كانت إلفينا محقة.


لو أنها لم تسمح لقلبها بأن يتعلق بأحد، لو أنها ابتعدت كما كان ينبغي، لما جرى شيء من هذا. لو أن ميلوري تركها عند الحدود ، وربما سقط نجم آخر في تلك الليلة ذاتها ليأخذ مكانها. جنية أخرى بأجنحة ذهبية، بقلب يليق بمواهبها: جنية متزنة، عملية، لا تركض وراء ما لا يمكنها امتلاكه.


لكنها ـ بعنادها ـ أبت إلا أن تترك أرض الجنيات تحتفظ بها، بكل نقائصها، طوال حياتها الطويلة. شعرت برغبة في الصراخ، في أن تنتزع الجرار من على الرفوف، لتتحطم وتتناثر شظاياها...تفتّت... أرادت لو استطاعت أن تعود بالزمن إلى الوراء، أن تبذل كل ما بوسعها لتنقذه من تضحيته المتهورة.


كيف أمكنه أن يفعل هذا؟

لا... بل كيف أمكنها هي أن تدفعه إلى ذلك؟ إن كان ثمة مذنب، فهي وحدها. كانت أنانية بما يكفي لتجذبه إلى مدارها. الملكة لم تُخلق لتعيش بين رعاياها. لا يحق لها أن تختلط بهم أو أن تجرّهم إلى دوائر تفوق حدود قدراتها. كانت مقدّرة لها الوحدة منذ البداية.


"لقد آن لي أن أكف عن مقاومة ذلك."


"كلاريون..."


ارتجفت عند سماع اسمها، ورفّت أجفانها بقوة. احتاجت إلى لحظة لتستوعب أنّ الغرفة قد أشرقت، وأن ضوء الصباح يتسلّل من النافذة، يتلطّف وهو يمرّ بين الأوراق، ويغمر وجهها بدفء رقيق.


لابد أنّها غفت من جديد.


رفعت يدها تلمس خدّها بجدية، فشعرت بالدموع اليابسة وقد خلّفت ملحًا يحرق بشرتها. مسحتها بمعصمها، ثم بدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا، لتقع عيناها على إلفينا، جالسة قرب منضدة السرير، والتعب العميق منقوش في كل خط من ملامحها.

 اجتاح بطنها وخز من الذنب. هل سهرت تراقبها طوال الليل؟


قالت إلفينا بصوت مفعم بالارتياح: "لقد استيقظتِ."


أسندت كلاريون ظهرها إلى الوسائد: "وأين بيترا وأرتميس؟"


ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتي إلفينا، كأنها توقعت السؤال. لكنها سرعان ما تلاشت، وحلّت محلها قناع الملكة، ذاك الذي ترتديه لتلقي الأخبار السيئة ببرود متزن. "هما بخير. رأيتُ الحارس سريعًا قبل أن يغادر إلى الشتاء. طلب أن نرسل المعالجين إلى الحدود ليعودوا بهما."


بالطبع، فكرت كلاريون. حتى وهو يتألم، لم ينس أن يتدبر مع إلفينا أمر إعادتهما إلى الديار. 

"وكيف حالهما؟"


"أرتميس أمامها طريقٌ طويل لتتعافى، لكنها في حالة مستقرة. أما بيترا، فهي نائمة، شأنها شأن الآخرين."


انعقد حلق كلاريون وهي تهمس: "وميلوري؟"


ترددت إلفينا لحظة، ثم قالت: "الوضع لم يكن مبشرًا."


"أفهم."


أغمضت كلاريون عينيها بقوة. كانت تريد أن تصدق أنه عاد سالمًا، لكن الأمل الأعمى لم يعد خيارًا. لا يمكن لجنيّ الشتاء أن يمكث في الفصول الدافئة بلا ثمن. وإن أطالت التفكير أكثر، فلن تملك القدرة على تماسك نفسها.


راقبتها إلفينا وهي تكبح مشاعرها. وحين استعادت توازنها أخيرًا، قالت إلفينا بهدوء: "كنتِ محقّة يا كلاريون."


مسحت كلاريون عينيها بطرف بطانيتها، وضحكت بمرارة: "بشأن ماذا؟"


"بشأن الحارس." قالتها إلفينا بشفاه مشدودة، وكأن الاعتراف يجرح كبرياءها. ثم أطلقت تنهيدة ثقيلة، وتابعت: "بشأن كل شيء. كان مخططي قصير النظر في أحسن أحواله، وخطيرًا بشكل لا يُغتفر في أسوئها. يجب أن تتعاون ممالكنا معًا."


 طالما حلمت كلاريون بسماع تلك الكلمات. ومع ذلك، بالكاد استطاعت أن تصدقها. "وما الذي غيّركِ؟"


"لقد أنقذكِ،" قالت إلفينا بلهجة واقعية وهي تشبك يديها في حجرها.

"ومن أجل ذلك، أدين له بدَين."


إذن، ما زالت هناك فرصة لإصلاح ما انكسر.


ربما لم تكن قوتها كافية لتقييد الكوابيس كما فعل أصحاب مواهب الأحلام. لكن كتاب الحارس قد تحدث أيضًا عن كابوس عظيم يسكن أعماق سجنه، كملكة نحل في خليتها، تملك من القوة ما يمكّنها من السيطرة على أتباعها، واحتواء كل قواها.


لقد أباد ضوء نجوم كلاريون الكوابيس التي كانت تحيط بقاعة الشتاء. فإذا هُزمت ملكة الكوابيس، لا بد أن تعويذتها النائمة ستنكسر. لكن ميلوري ما زال في طور التعافي. ثم إن كل محاولة بذلتها للمساعدة من قبل لم تزد الأمور إلا سوءًا في النهاية.


قالت كلاريون : "يمكنكِ أن تساعديني. معًا، نستطيع أن نفني الكوابيس،" 


ابتسمت إلفينا بأسى: "لا أستطيع. قوتي آخذة في الأفول."


"أفول؟" بدا صوتها ضعيفًا إلى حد الطفولة في أذنيها.


فتحت إلفينا راحتها، فتفتّحت في كفها وردة من ضوء النجوم، تحاكي زهرة تنبثق ببطء. كان الضوء يحترق دون انقطاع، لكن بلا حرارة تُذكر، ليس كما اعتادت كلاريون. ثم أغلقت أصابعها، فانطفأ البريق. 

"لم أعد أستطيع احتمال أكثر من هذا."


لم أسمع قط عن موهبة جنيّة تخبو مع الزمن... لماذا؟


"هكذا هي الأمور،" أجابت إلفينا. "بعد تتويجك بقليل، سأعود نجمة ، كما فعلت كل الملكات من قبلنا."


"لا... لا أفهم..." هزّت كلاريون رأسها بعناد. لم تستطع استيعاب الكلمات، رفض عقلها أن يمنحها معنى. إن كان ذلك صحيحًا، لكانت قد رأت العلامات، أليس كذلك؟


لكن... هل بدت إلفينا مختلفة؟ بالكاد تتذكر كيف كانت ملامحها حين جاءت لأول مرة إلى ارض الجنيات. هل ذاك الخيط الرمادي في شعرها جديد؟ هل كانت دومًا هشة الملامح، عظامها دقيقة كعظام الطيور تحت بشرتها الفاتحة؟ تعيش الجنّيات أعمارًا طويلة، والملكات أعمارًا أطول. لم يكن يفترض أن ينتهين بسبب شيء عادي كالشيخوخة.


"أنا... لا أفهم،" تمتمت كلاريون أخيرًا.


قالت إلفينا بصوت مرتجف قليلًا، تغالب ألمًا لم تستطع كتمانه: "أنا آسفة، كلاريون. كان عليّ أن أخبرك بأشياء كثيرة... كان ينبغي أن أخبرك منذ زمن، لكنني لم أعرف كيف."


لم ترغب كلاريون بسماع المزيد. لقد تاقت طويلًا لأن تكشف لها إلفينا الحقيقة، أما الآن، فبدت الحقيقة أثقل مما تحتمل. دموع ساخنة علقت في حلقها وهي تشعر بيد إلفينا تزيح خصلة من شعرها خلف أذنها.


قالت إلفينا بهدوء حنون:

"لم أزر اليابسة يومًا، لكنني سمعت الكثير عنها. البشر يحبون أبناءهم منذ لحظة ولادتهم، ويربّونهم على أمل أن يكونوا أفضل منهم. حين رأيتك تنهضين من ذاك النجم، أظنني أدركت شيئًا مما تشعر به الأمهات. أعلم كم هو مربك وصعب أن يُقال لك منذ أن تتنفسي أول نفس أن العالم يتوقف عليك، ثم تدركين في قلبك أن ذلك حق.

رأيتُ فيك أشياء تشبهني، لكنني رأيت أكثر منها ما لا يشبهني. علّمتني تجربتي دروسًا كثيرة، أغلبها مؤلم ومرير. أردت أن أحميك منها. لم أرد أن تُجرحي. أنتِ غالية عليّ."


تركت يدها تسقط برفق. "عبء الملكة ثقيل، وأعمارنا طويلة. كل الجنّيات اللواتي تحبينهن سيذبلن في النهاية بينما تظلين أنتِ على حالك. لقد تنحّيتُ جانبًا كي لا أثقل نفسي بحزن لا أطيق احتماله. وشجّعتكِ أن تفعلي الأمر نفسه، رغم أنني كنت أرى كم كان ذلك يمزّقكِ. وقد حاولتِ كثيرًا من أجلي."


انكمش قلب كلاريون بألم يفوق كل ما تصورت يومًا أنها قد تحتمله. رأت في إلفينا الطفلة التي كانتها، والمرأة التي غدت، امرأة صاغتها وحدة طويلة وحياة مثقلة بالخسارات. حاولت إلفينا أن تحميها من الجراح، لكن مسعاها ترك بدلاً من ذلك ندبة جديدة، مرآة مشوهة لندوبها القديمة. غير أن اعترافها هذا حرّر كليهما أخيرًا؛ صار بوسع كلاريون أن تختار بنفسها أي ملكة تريد أن تكون.


تذكرت كلمات ميلوري: "كنت أتمنى أن يكون لي مستقبل آخر في ارض الجنيات."

التفكير فيه، في رغبته تلك التي حملتها في قلبها بأمان، أيقظ بداخلها شيئًا. انبثق ضوء النجوم في فجوة صدرها الباردة، دافئًا كوهج مدفأة خريفية، يتدفق عبرها بالطمأنينة. ربما كان بوسعها أن تجعل ذاك الحلم واقعًا لكليهما. ربما تكون الملكة الصالحة مثل النجم الذي وُلدت منه: لا باردًا بعيدًا، بل نجمًا يحمل آمال رعاياه معه إلى الأمام.


إن كان هذا آخر ما تفعله، فعليها أن تجعل تضحياتها ذات معنى. عليها أن تحمي ارض الجنيات ، وكل من تحب، بكل ما تملك. ذاك، قررت، هو النوع من الملكات الذي ستكونه.


"أظنني فهمت الآن،" همست كلاريون. "شكرًا لكِ، إلفينا... على كل شيء."


"بالطبع،" أجابت إلفينا، وفي صوتها لمحة دهشة، ثم تابعت: "ارتاحي الآن واستعيدي قوتك. معًا، سنجد طريقًا للمضي قدمًا."


معًا. كم بدت الكلمة عذبة. لكن كلاريون كانت تعلم أنها ستخوض هذا وحدها. لن تدع أحدًا آخر يتأذى بسبب إخفاقاتها.


حين أُغلق الباب خلفها، تمسكت كلاريون بتلك الشرارة الصغيرة من الأمل المشتعل في داخلها. توهجت كجمرة دافئة، ثم نفخت فيها حتى زاد وهجها. لإنهاء هذا، كان عليها أن تواجه ملكة الكوابيس بنفسها، قبل أن تتحرر.


كان عليها أن تهبط تحت الجليد.


                         ---------


وفي اليوم الثالث من تعافيها، شرعت كلاريون تخطط لهروبها.


لم تكن تعلم إن كانت ستصبح مستعدة تمامًا لمواجهة الكوابيس من جديد، لكن ما علّمها إياه تتويجها الوشيك هو أن المرء لا يشعر يومًا بأنه مهيأ كليًا للأمور الصعبة.


انتظرت حتى صبغ الفجر الأفق بحمرة كالدم، وراحت أصوات الصيف الصباحية تتسلل عبر نوافذ العيادة نصف المفتوحة. باتت كلاريون بحلول هذا الوقت منسجمة مع إيقاع الحياة هنا.

 في تلك الساعات الغائمة، كان المعالجون يتبادلون الأحاديث في الغرفة المجاورة، ثرثرة حول بعض المتاعب في عملهم، لا شيء يستحق الالتفات. وبين جملهم، ارتفع غناء العصافير الذهبية، وأصوات اليمام الموحية بالأسى.


الآن أو أبداً.


كان معطف الشتاء مطويًا إلى جانب سريرها، وحين نزعته وجدته سليمًا، باستثناء بقع دم قليلة. يكفيها لتصمد في رحلة شتوية أخرى. 

لم يبقَ أمامها سوى أن تغادر العيادة من دون أن يلحظها أحد. وهذا يعني أنها ستواجه العقبة الأخيرة لقدرة المَلِكات: الانتقال الآني.


لم تنجح فيه قط من قبل. لكن في تلك اللحظة، ومع ضوء النجوم المتقد في داخلها بثبات، لم تشعر إلا بيقين هادئ. ارتدت معطفها على كتفيها، ودَفَعت النافذة لتفتحها أكثر. رأت أن من الأفضل أن تكون محاولتها الأولى حقيقية لا عبر جدار صلب. أخذت نفسًا عميقًا وأغمضت عينيها.


والآن... لو تخيّلت نفسها أخف وأخف...


انبثق بريق من أعماقها. وحين رفعت يديها إلى مستوى عينيها، رأت أطرافهما تبهت وتذوب في شرارات ذهبية. ومض خوف غريزي في صدرها، لكنه ما لبث أن تبدّد في نشوة عارمة. شيئًا فشيئًا، تحلّلت إلى غيمة متلألئة من غبار الجنّيات. وكأن النسيم استُدعي من رغبتها، فهبّ يرقص بين الأوراق، حاملاً إياها في تياره الرقيق. انساب بها من النافذة المفتوحة، صامتًا، بلا شكل، مثل ضباب يتسلّق سفوح الجبال. انزلق فوق المروج متجهًا إلى حافة الغابة. وما إن وصلت إلى ظلال الأشجار حتى استعادت شكلها من جديد.


لقد فعلتُها.


قهقهت كلاريون، ضحكة يملؤها الذهول. شعرت بالدوار وعدم الثبات، لكن نظرة سريعة إلى جسدها أكدت أن كل شيء سليم، لم يترك الغبار النجمي اثراً خلفه. نجاح باهر، في رأيها. لكن الوقت لم يسمح لها بأن تتأمل ما حققته.


انطلقت نحو السماء متجهة إلى الحدود. والآن بعد أن عاد بريق النجوم ليشتعل داخلها، بدأ البرد الذي تسلل إلى عظامها يتلاشى. صحيح أن توهجها لم يبلغ بعد سطوعه المعتاد، غير أن ضوء الشمس المتسرب إلى جناحيها بدا وكأنه يشفيها. ومع كل خفقة من جناحيها، كانت شرارات ذهبية تتراقص حولها في الهواء.


ومن تحتها، بدا حقل نيدل بوينت بحرًا واسعًا من الخضرة. شوكيات البرية تركض بين الأعشاب الطويلة، تصطدم ببعضها أحيانًا في عجلتها. كان مشهدًا غير مألوف أن تراها متجمعة بهذا الشكل، لكن كلاريون أدركت السبب سريعًا: شريط طويل من الأرض المحروقة يمتد كالندبة في التراب. لا شك أن الكوابيس قد طردتها من مواطنها. توهّج تصميمها من جديد، مشبوبًا بالغضب.


مرة واحدة وإلى الأبد... سأنهي هذا.


وحين بلغت الحدود، اجتاحها شعور متناقض بالراحة والحزن لرؤيتها الجسر خاليًا. حسنًا، فكرت. سيكون الأمر أسهل إن لم تضطر إلى إقناع ميلوري بالبقاء.


أحكمت كلاريون إغلاق معطفها، وخطت إلى الشتاء. نزلت عن الجسر ورفعت رأسها نحو السماء. لبضع لحظات، وقفت هناك تستنشق الهواء النقي، عطر أشجار الصنوبر، تستمتع بلسعة البرودة على وجنتيها، وتراقب رقص الثلج الهائج في الهواء. لم يسبق لها أن رأت غابة الشتاء في وضح النهار. كان الثلج يتلألأ كأنما رُصّع بالماس، والجليد يعكس نورًا ذهبيًا ينساب فوق الأرض.


فكرت :"جميل..." 


أدهشها كيف يمكن لمكان واحد أن يحمل ذكريات سعيدة وأخرى موجعة بنفس القوة. لكنها رغبت أن تتذكر الشتاء على هذا النحو: صديقًا صامتًا يرافقها بهدوء. 

داعب النسيم شعرها، يجذب أطرافه كطفل لعوب.


همست : "لقد حان الوقت لأطلق سراحك..." .


كان الطريق إلى سجن الكوابيس طويلًا. لو كان بوسعها فقط أن تستدعي نوكتوا... عقدت كلاريون حاجبيها حين خطرت لها الفكرة. لن يضرّ أن تحاول. وضعت أصابعها على شفتيها وأطلقت صفيرًا.


لم يحدث شيء.


ببطء، أسقطت يدها إلى جانبها وقد شعرت بالحمق لمجرد التجربة. لكن عندها دوّى صوت نداء متسائل من فوق رأسها مباشرة.


شهقت كلاريون: "نوكتوا!"


أدار البوم رأسه ليتفحّصها. بدا وكأنه يرمقها بدهشة ساخرة، كأنه لم يتوقع أن يسمع نداءها أبدًا. ومع ذلك، قفز من على غصنه، ونفش ريشه تحية لها.


مبهورة حتى النسيان، تقدمت كلاريون باندفاع، ومررت أصابعها على منقاره. كم بدت يدها هشة مقابل ذاك الطرف القاتل. كم سريعًا، فكرت بمرارة ساخرة، تخلّيت عن غريزة البقاء.

"لعلّ ميلوري كان تأثيرًا سيئًا عليّ... آمل فقط ألا يمانع كثيرًا إن استعرت صديقه المقرّب"


قالت بهمس: "أنا آسفة... سيكون الأمر بيني وبينك اليوم فقط."


رمش نوكتوا ببطء، ولم تكن متأكدة، لكن بدا وكأنها إشارة قبول.


نظرت كلاريون إليه وقد انكشفت لها حقيقة مُقلقة: ستسافر وحدها. لكنها تدربت بما يكفي، لا شك في ذلك. وكان خطر السقوط أقل فداحة من خطر السير على الأقدام. عليها أن تصل قبل حلول الليل.


همست لنفسها : "لا بأس... يمكنكِ فعل هذا،" .


أمسكت باللجام وصعدت على ظهر نوكتوا. وما إن وجدت توازنها، حتى ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها. لم يكن الأمر بالصعوبة التي تخيلتها. حسنًا، ماذا كان يفعل ميلوري ليجعلها تقلع؟ آه، صحيح... بخجل، شدّت على اللجام.


انطلق نوكتوا كالسهم. ولأنها كانت وحيدة، لم تُكلّف نفسها عناء كتم صرختها.


شقا طريقهما بين قمم الأشجار وسط وابل من الثلج وأغصان الصنوبر المتساقطة. انعكست أشعة الشمس على جناحي نوكتوا، لتطلي أطراف ريشه ببريق متلألئ.


اندفع البوم بسرعة، واللجام ينزلق بلا جدوى من بين أصابع كلاريون. انحنت على عنقه، وشَعرها المنفلت يصفع الهواء خلفها بجنون. وبعد لحظات من الصراع المحموم، قبضت على اللجام بقوة حتى اختنقت به تقريبًا، فأخذ نوكتوا يهز رأسه احتجاجًا.


"واو!" خرج صوتها لاهثًا، نصفه فزع ونصفه نشوة.


حين استعادت السيطرة، تماسكت بصعوبة. استنزفت كل قوتها في فخذيها وذراعيها لتبقى في مكانها، لكنها تمكنت من ذلك. وبشعور من الانتصار، وجهت نوكتوا نحو سجن الكوابيس.


الآن فهمت لماذا كان ميلوري يحب الطيران على ظهر بومة إلى هذا الحد. 

حلقا فوق غابات الصنوبر والبتولا، ولم يهبطا إلا حين لمحَت عينها البحيرة المتجمدة.

 حطّا على الشاطئ، ونزلت كلاريون. ارتجفت ساقاها واضطرت إلى الاتكاء على نوكتوا لتستعيد توازنها. وقفت بجانبه، تحدّق في الامتداد المتلألئ للجليد. حتى في ضوء الصباح البارد، تسللت تلك الرهبة الزيتية إلى قلبها، تضغط عليها بلا رحمة. قاومت ارتجافة جسدها.


همست : "تمنَّ لي الحظ..." .


اقترب نوكتوا ووضع منقاره على كتفها، فآثرت أن تفسّرها كعلامة بركة.


ثم تقدمت كلاريون نحو الضفة بخطوات بطيئة مترددة. بدا الجليد أرق مما كان عليه آخر مرة، يتماوج ويئن تحت ثقلها. لكن الأمر لم يتضح حقًا حتى بلغت كلاريون قلب البحيرة، أبصرت بقايا الحاجز الذي كانت قد نسجته مع ميلوري. تناثرت شظايا الجليد كأنها زجاج مهشّم، فيما تمزّقت خيوط ضوء النجوم الرقيقة كما لو لم تكن سوى خيوط عنكبوت. لقد تمزّق السجن بما يكفي لإطلاق سراح معظم الكوابيس، ما عدا أعظمها حجمًا وأشدها خطرًا. لعلّ غبار المواهب الحاكمة كان حقًا غير متوافق مع غبار الأحلام، أو لعلّ الكوابيس قد غدت أقوى من أن تُقيّد بعد الآن. أياً يكن السبب، فقد عقدت كلاريون عزمها على ألّا تدعها تؤذي جنية أخرى بعد اليوم.


في ضوء النهار، بدا ما يرقد تحت الجليد ساكنًا على نحوٍ مريب. غير أنّ كلاريون أحسّت بنظراتها تثقلها وهي تحدّق في العالم المطمور تحت سطح البحيرة.

 أهو متجمّد تمامًا هناك؟ أم

 أنّ ماءه ما زال يتربّص بها، متأهّبًا لجرّها إلى أعماقه الأكثر ظلمة؟

 اجتاحتها حيرة عارمة، لكنها لم تعد تملك ترف التراجع. لقد قطعت هذا الطريق كله، ولم يبقَ أمامها سوى خيار واحد لتعرف الحقيقة.


قفزت.

تعليقات